أينما تكون عربيا لا بد أن يشدك الحنين إلى مصر فثمة مخزون لا ينضب من المشاعر المختلفة التي غذتها روافد متعددة من الثقافة والسينما والأدب والشعر والموسيقي التي تربط العرب جميعا بهبة النيل.
الرافد الجديد الذي عزز كل ذلك الحنين إلى مصر هو هذه الثورة التي جاءت مع حصيلة أيام كثيرة من الشد والجذب في متابعة دائبة لأنفاس المعتصمين في ميدان التحرير عبر شاشات الدنيا التي قربت لنا البعيد وكلمت الحديد.
حملت معي مشاعري المختلفة وجئت أبحث عن الثورة أتلمس مظاهرها في الشارع وفي حياة الناس فكلما يجري دائماً في المركز له وقع اشد علينا نحن مواطنو الأطراف.
تركت نواكشوط وهي غارقة في حرها اللافح رغم نسمات الأطلسي التي تطل بين حين وآخر لأسلك طريقا طويلا يمر بالدار البيضاء قبل الوصول إلى القاهرة.
السهاد الطويل والتنقل بين المطارات يهد الجسم ويجعله يحلم بالنوم ولو للحظات لكن ليس قبل أن ترى القاهرة الجديدة وتسمع من أهلها وتسترشد للثورات التي تعبر العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه ولو بدرجات متفاوتة.
المفاجأة الأولى أن إجراءات الدخول لم تتجاوز بضع دقائق.. هذه ثورة حقيقية بالنسبة لمن عانى من الانتظار من قبل والتنقل بين أكشاك الشرطة قبل أن يمنوا عليك بالدخول بعجرفة يجول في ذهنك بعدها أن لا تعود أبدا.
الهواء منعش في ذلك الوقت من الصباح وقلة الزحمة تسمح للسائق الذي انتظرني بالسير بسرعة معقولة للوصول إلى فندقي على النيل، لكن المسار سيمتد ليسلك أكثر من شارع فرعي تلافيا للمظاهرات المختلفة التي تقطع الطريق للاحتجاج على كل شيء.
حملت معي حقيبتي ورزمة من الصحف المصرية اشتريتها من بائع الصحف بالمطار وقلت لعلني استعين بها لتقرب إلي المشهد.
بدت القراءة الأولى دالة على تطور جديد، فالفوارق التي كانت تميز بين الصحف التي توصف بالقومية ومثيلتها المنعتة بالمعارضة لم تعد موجودة. العناوين تكاد تكون نفسها، يوميات أولاد مبارك في سجن المزرعة وردود فعل مبارك الأب على التحقيق معه وتفصيل في تفصيل حياة رجل الأعمال احمد عز.
ثرثرة النيل الجديدة هي رواية لم تكتمل فصولها بعد.. هي حكايات أغنى سجن في العالم حيث يعيش أصحاب الثروات من وزراء وباشوات العهد الذي غدا بائدا بتشابك الأيدي الواحدة بين الجيش والشعب.
هل فقدت الصحف المصرية رزانتها وبدأت تتحول إلى الاصفرار؟ هكذا خلصت وأنا أتصفح أكثر من عنوان فأغلبها ينقل صدى صراخ جزء من الذين بقوا في الميدان بعدما هجره الجزء الآخر.
يمتد الطريق ويستهويني كل ذلك السيل من الكتابات لمقالات تحذر من سرقة الثورة، والبعض ينصح الحكام الجدد، والبعض الآخر يحذر من حروب السلفيين الذين ظهروا فجأة حالمين بتعليق المشانق لكل من يخالفهم الرأي والاعتقاد بفهمهم الصحيح للإسلام.
ما يصدمك وأنت تقرأ لكتاب الأعمدة هي تلك السرعة الهائلة في التحول من ضفة لأخرى.. تجد أن البعض كان ينصح النظام ويحاول ثنيه عن مساره، ولكن كما يقول المثل لا حياة لمن تنادي، استحضار تلك الموسيقى التي سمعتها أكثر من مرة عاد بي إلى أكثر من خمس سنوات مضت.
ففي صيف 2005 حين أنهى ضباط من الجيش عقدين من الزمن من حكم الرئيس معاوية ولد الطايع تحولت معظم الطبقة السياسية التي كانت حاضرة في المشهد في طرفة عين إلى ناصحين ومصلحين.. فهل يمكن لمصر العظيمة أن تتعلم من موريتانيا؟! ليس بعد.. لكن التناص كما يقول النقاد يشهد بان العرب من المحيط إلى الخليج أمة واحدة.
يظهر الاختلاف بين أهل الثورة كما تعكسه الصحف هنا جيل آخر يعبر عن نفسه بوضوح من الذين يطالبون بمحاسبة الجميع وربما تعليق المشانق مثل الثورة الفرنسية لا الحساب والمصالحة طريقا لتصفية إرث الماضي الثقيل.
دلفت إلى فندقي وسط فرح غامر لثلة من البوابين الذين يبالغون في الاحتفاء بكل قادم جديد.. وكيف لا وقد بدت معظم الفنادق فارغة بعدما هجرها السياح لحين من الوقت ريثما تعود مصر وجهة سياحية آمنة؛ حسبما يعتقدون.
باحة الفندق لا تشي بأن هذه هي القاهرة الاعتيادية حيث اعتاد السياح العرب ملأ باحات الفنادق المطلة على النيل، حيث تغرق الفتيات بين روايات إحسان عبد القدوس، وينصرف الرجال إلى ملذاتهم إلا من رحم ربك.
رغم الفرحة بالتغيير يشعر احمد؛ الرجل الستيني، بأن وقت الثورة قد طال وان الحاجة تبدوا ملحة للاستقرار.
منذ شهر وسائق البيجو القديمة يشكو من الرتابة في العمل العائدة لغياب السياح. تصور لقد مضت ساعة دون ان يطل زبون؛ يقول الرجل وهو يثبت يديه على مقود سيارته القديمة في صف من السيارات المنتظرة على ضفاف النيل.. إنهم الشباب لا يزالون يصرخون في الميدان لان ليس لديهم ما يفعلونه.
في المقابل يقول شاب آخر “أصبح لدينا الوقت للحديث في كل شيء الشعب يريد الاستقرار والخبز والسياح أيضا”.. يتدخل احدهم في تلك الحلقة الملتئمة لحين مجيء زبائن لا يأتون في انتظار أن تعود مياه النيل إلى مجاريها.
لابد من الميدان ولو طال السفر.. لا بد أن المكان سيصبح وجهة سياحية مثل الأهرامات والشوارع المحيطة بها، ولم لا الأقصر وغيرها من وديان الفراعنة.
لا يبعد الميدان سوى بضعة أمتار عن فندقي.. جولة على الأقدام تفي بالغرض رغم إلحاح أصحاب سيارات الأجرة عند أبواب الفندق على إيصالي لحاجة لا تحتاج للشرح.
هذا هو المكان الذي ملأ سمع وبصر العالم.. مازالت مجموعة من الشباب تؤدي طقسها اليومي بالتظاهر مرددة لوازم ساخرة من الشعارات حول سكان سجن المزرعة الجدد.
غير بعيد انصرفت مجموعة من الجنود لخلط الأسمنت بالتراب والماء، جلب بعضهم كتلا من صفائح الجبس والمرمر طلب جندي ساخرا من مجموعة من الشبان المساعدة في حمل الأثقال لأن الشعب والجيش يد واحدة.
حمل الشبان صفائح لكنهم لم يستطيعوا حمل الأثقال في الميدان فتلك ليست من أولويات الثورة في الفترة الحالية على الأقل.
يريد الجيش تغيير وظيفة الميدان محاربة المظاهرات بالعشب الأخضر اليانع والورود والأشجار هكذا يكون مكانا للراحة والجذب لا مجالا لتعكير صفو الأمن، يخلص محمد؛ الصحفي المصري الشاب الذي شارك بقوة في كل التظاهرات ووثق مراحلها بكاميرته.
ويذهب الصحفي الشاب إلى أن الشعب المصري كان ذكيا بحيث دفع الجيش بتغيير موقفه من الثورة بترديده لشعار الجيش والشعب يد واحدة، فتلك كانت أفضل وسيلة لشبك الأيدي الواحدة وضمان نجاح الثورة.
يحلم محمد كغيره من شباب الثورة بمستقبل جديد تكون فيه الديمقراطية أمرا واقعا يسمح بظهور طبقة حاكمة جديدة ووضع اقتصادي أفضل، لكن أحلام محمد الوردية قد لا تكون في معظمها قابلة للتحقيق في الفترة الآنية على الأقل، ويعترف الرجل أن تعافي الاقتصاد المصري من الضربات الموجعة التي تلقاها تحتاج لوقت، وان ثمن الثورات مرتفع جداً أحيانا.
الأمل الموعود والفخر بالتغيير لا تعني شيئا لبائع أوراق البردي ذات الصناعة الصينية والذي افترش ركنا صغيرا في حافة الميدان لبيع تذكراته وسجائره الرخيصة، منذ أن علا الصراخ هنا لا احد يشتري؛ يقول حمادة متجهما وقد بدا المستقبل غامضا أمامه وهو الذي يعيل أسرة فقيرة في احد أحياء القاهرة الشعبية.
المشكلة الجديدة هي ظهور السلفيين من تحت الأنفاق فهم النقطة السوداء في الثورة المصرية؛ يقول محمد سليمان، لا اعرف أين كانوا ولكنني اعرف أنهم يمثلون مشكلة حقيقية للشعب المصري الذي عاش متحدا متنوع الثقافة والمعتقدات.
الظاهرة تبدو أحد أسباب الجمود الذي عانى منه المجتمع المصري في العقدين الأخيرين؛ يقول حسام تمام الباحث في الدراسات الإسلامية واحد الخبراء القلة في معرفة تفاصيل المشهد الديني بمصر بحيادية وتجرد.
قلت في نفسي ماذا لو “تسلفت” مصر فغدا تظهر مظاهرها في كل شيء ويجري تقليدها كالعادة في العالم العربي، وربما يصبحون جزءا من وقود الثورات المقبلة.
هل الحديث عن الظاهرة هي مجرد نزعة التهويل في الصحافة المصرية، أم أن مصر ستفقد وسطيتها وطرقها الصوفية وثقافتها الدينية العريقة.
ليست الصورة بتلك السوداوية؛ يقول لي سفير عربي ونحن نتناول الغداء وحيدين في مطعم أحد الفنادق المطلة على النيل، حتى وقت قريب كان من الصعب أن تجد لك مكانا هنا يقول لي السفير، لكن ما حدث هنا ولد حراكا جديدا وأيقظ روح مصر النائمة من سباتها، وعلى كل لا تخف فمن شرب من مياه النيل سيعود إليه مرات ومرات.
في رحلة العودة حرصت أن احمل معي أعدادا من صحف ما قبل وبعد الثورة، وكالعادة روايات وكتب جديدة كان من بينها واحد شدني على مدى ساعات العودة الطويلة.
“الرجل ذو البذلة البيضاء الشركسين” كتاب كتبته فتاة يهودية عاش أبواها في قاهرة الأربعينيات، وشدها سحر لا يقاوم لمصر، ليس من واقع معيش فهي لم تعرف القاهرة، وإنما من خلال رواية أبويها في مسار هجرتهم الطويلة من فرنسا إلى نيويورك.
كان والد الفتاة اليهودية يصرخ من مركبه في بداية هجرته القسرية “أعيدوني إلى مصر “.. سيعود كل أولئك السياح الذين هجروها؛ يؤكد لي أحد الأصدقاء، تماماً كرغبة ذلك اليهودي الهارب من حتفه، فثمة شيء ما يشدك إلى مصر أكثر من الارتواء من مياه النيل المعلبة طبعا.