عشر يعدها العادون، طوالا عجافا، أيامها شهور وشهورها سنون، بل سنين.. والعهد مع ذلك قريب، والوجد طري طازج، والغائب حاضر مُرِبّ..
حاضر ذلك الفتى:
صدر يسع الجميع، وبشر حاضر، وكنف موطأ، وعرض نقي..
وجه بشوش، يتقمصه سحبان وقس، وابن الطلبه، وابن الشيخ سيديا، وابن بابا، والتشيتي، وفرسان مجلون آخرون كلهم يريد أن يكونه، ويريد الفتى أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل..
مرابط محضري “مسح فمه” من الفنون، وامتطى صهوة العصر، يافعا..
فدائي سلاحه قلم نابض وهمة قعساء تأبى الدنية، وهمّ مقيم ما أضلت سنابك خيل المرابطين طريقها الجدد.
حاضر ذلك الفتى اليافع، يوم كان في الثانوية، يشع بهاء وذكاء ، يغشى المراكز الثقافية فيلتهم حروف المعاني والمباني التهاما.. يحاضر فيختلب الألباب.. يرأس، وهو ابن السابعة عشرة، لجنة الشعر في رابطة الأدباء الوليدة..
حاضر ذلك الفتى، وهو يسعى على درب الشيخ الكدالي، وقد عنا وجه من لقبوه “المجاهد الأكبر” لفتى قادم من الصحراء، ركز رجولته في قبضته، وقرر أن يكون الأفضل.. وقال في خشوع وإخبات: قدمي على رؤوس المبرزين من الفرسان في بلاد الزيتونة والقيروان..
نحن أولى بابن الفرات وابن سحنون وأبي عمران وابن عرفة والمازري وابن رشيق، قال الفتى، فلم يكذبه أحد.. وبين الشهود المبرزين “عربي أخره الله”..
حاضر أنت، وأنت تدعو الطلبة في جامعة نواكشوط، غضة الإهاب، إلى مأدبة ابن أحمد يوره وآخرين، وتطعمهم جنى الأسلوبية واللسانيات الغض، وتطوح بهم في سماوات الفكر واللغة والأدب، ومن الأدب سمت وحال، وكلمات هي في فم “الأثير” أناشيد وأهازيج، وسحر آسر…
***
عشر طوال تتمدد إلى الخلف، تلتهم عشرا غوابر أو تزيد.. والحاضر ملء السمع والبصر غائب تلك الأيام، حال مرتحل، يسابق ابن زريق..
رياح تهب من الجنوب، وسحابة تقلع شمالا، وقد اقشعرت الأرض وصوح النبت.. قالت السحابة في دلال: شطآن الأطلسي لا تريدني، ملحها الأجاج مكابر ينكر ظمأه.. رمالها الظمأى لا تبحث عن وسمي يمسح وجهها بمنديل أخضر..
ثمة شطآن أخرى تنادي: هلم إلي.. زنقة تامصلحت، آكدال، ثم حي الرياض، والطريق السالكة إلى باب الرصيف وباب الزحون.. عوالم أخرى تحب الخضرة والجمال والوجه الحسن.. شدت السحابة إليها الرحال، وتجرع غُلته الوطن…
***
شأن السحاب أن يجوب اليباب، ويقلع من المحيط إلى المحيط..
المياه الزرقاء والمروج الخضراء لا يعنيها في شيء ظمأ الصحراء، إنها تعشق الندى.. قال المحيط الهندي: لقد شطت بك النوى، أيتها الغمامة، عن محيطك وموجه الزاخر، ورماله العطشى، وشطآنه المكابرة… إليّ إليّ أيتها الغمامة، فأنا محيط آخر.. مياهي الزرقاء قرمة إلى عبق الصحراء، والرطانة عندي هوس بالشعر..
شدت الغمامة الرحال وعرست في عمق المحيط، وقد فتحت انغازيدجا ذراعيها وقالت: مرحبا! علميني كيف أنطق الضاد، ناوليني دواة وقلما.. اعجني طيني بالخضرة والجمال والوجه الحسن.. إنني أريد أن أتعرب.. أريد أن أهزم الجغرافيا.. التاريخ لا ينتهي، لكن الجغرافيا تسقط أو تترنح..
المسافة ما بين نخلتي لورين و”جزر الواق واق” كلمة، قالتها غمامة إيكيدي، وهي تروي الأرض الجرز المتربعة على عرش المياه ..
***
شأن السحاب أن يجوب اليباب..
أقلعت الغمامة مرة أخرى من محيط آخر إلى صحراء أخرى.. أحمد بابا كان هناك.. مارس الكيمياء المحرمة، جعل الرق حرية وعِلما، ثم رحل قبل قرون، وقال: الحقي بي أيتها السحابة، ما ذاك محلك.. منحنى نهر النيجر وسهوبه إليك أحوج.. لك هناك، حول مئذنة سنكوري، أهلون غير أهلي الشنفرى، لكنهم أيضا شرفاء.. انشد عندي ضالتك أيها الأديب.. تبتل في محاريب الفقهاء المفتين، واغش مجالس الوراقين والمؤرخين.. جاذب البرتلي أطراف الحديث وكؤوس الشاي.. امتشق يراعة أو اخترط ريشة وارسم صورة جيل آت، يشهد أن الشيخ الكنتي ضرب أطناب خيمته ذات يوم في تلك الأرض…
***
أنجزت الغمامة المهمة، وهتف هاتف أن اسبحي من النهر إلى النهر وكوني جسرا بين المحيط والخليج..
هبت رياح مبشرات على مضارب القواسم وبني ياس..
القوم هناك مهرة في الغوص العميق لاصطياد اللؤلؤ.. قال واردهم: يا بشراي هذه لؤلؤة تشكلت من مطر “النيسان”!
أخذت النحور والمحاريب والمدرجات زينتها، وللزينة يوم أو بعض يوم.. ولكل أجل كتاب…
***
هتف حقف منكثب، غرست في حصبائه أحلام اليافعين وأمنيات أجنة في أرحام الطيبات وطموحات كل الخارجين على قانون السيبة: لماذا تهاجرين بعيدا أيتها الغمامة/ اللؤلؤة، ومرابع الصبا يباب كما ترين ، ونحور الغواني عطل.. ألا تشعرين ؟ لا ضير.. أمطري حيث شئت فسياتيني خراجك!..
استوت الغمامة جسدا، وقالت: أنا أول الآتين..
تشكلت اللؤلؤة غمامة من جديد وأغمضت عينيها حتى لا ترى سقوط بغداد ولا تشهد عودة كرزاي، وأقلعت قافلة إلى الصحراء، وغاصت في أعماق بحر ذهبي على مشارف البتراء …
قالت اللؤلؤة وقد انتشى الصدف: لا تفتشوا عني، ولو بعد عشر، على ناصية شارع أو واجهة مدرسة أو مدرج جامعة!.. النحور العطل في بلادي لا تحب الزينة، وأهل المنكب البرزخي لا يجيدون الغوص لاستخراج اللؤلؤ… الصدف هو القصر والخيمة والطلل…
***
وقف على الطلل ثلة من الشعراء: صعلوك قتيل، وثائر صريع، وسجين فقيد، وفارس شهيد، ورومانسي تخطفته المنون في ريعان الشباب..
قال الشنفرى:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول
قال أبو الطيب:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
قال العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
قال فارس حمدان:
ونحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
قال شاعر الشابة:
الناس لا ينصفون الحي بينهم حتى إذا ما توارى عنهم ندموا
قال نزيل البتراء:
داء نجاة المرء منه مصيبة عظمى وفوز أن يميت عظيم..!!!
ولله الأمر من قبل ومن بعد….