سوف تتضمن هذه المعالجة شقين اثنين شق يتصل بحقوق الإنسان والديمقراطية في إفريقيا الشمالية بوجه عام، وشق يعنى بالتجربة الديمقراطية الموريتانية بشكل خاص.
وسيتم خلال هذه المعالجة الإعراب عن بعض المخاوف والإفصاح عن بعض الآراء وتحبيذ بعض المسلكيات.
وضعية حقوق الإنسان وحالة الديمقراطية في إفريقيا الشمالية
إن أوضاع حقوق الإنسان وحالة الديمقراطية في شمال إفريقيا ليست على ما يرام بما فيه الكفاية إذ ن جل الأنظمة بالمنطقة تنزع إلى الاستبداد وتميل إلى اعتماد التوريث لإعادة إنتاج نفسها، ولا تقيم كبير وزن لحقوق الإنسان ولا تتيح مجلا واسعا للتداول السلمي للسلطة. ولعل مرد هذه الوضعية إلى العوامل الآتية :
ـ الطبيعة الذكورية الأبوية للمجتمعات في شمال إفريقيا
ـ ثقافة الخضوع للسلطة مهما كانت وذلك من منطلق يقوم على مقولة : (من قويت شوكته وجبت طاعته).
ـ تعاقب الإحتلالات الأجنبية وما رسخته من (امتهان الشعوب وكسر إرادتها)
ـ دعم البلدان الغربية الرأس مالية للأنظمة في شمال افريقيا نتيجة لتلاقي مصالح هؤلاء وأولئك.
ـ استشراء الفقر وانتشار الأمية بين الأوساط الشعبية في المنطقة.
هذه في عجالة هي أهم العوامل التي تكمن وراء ضعف حقوق الإنسان وهشاشة الأنساق الديمقراطية في جل إن لم نقل كل أقطار الشمال الإفريقي. لكن التغيرات المتلاحقة التي يعرفها العالم اليوم نتيجة لاستفحال ظاهرة العولمة وتنافس الدول العظمى على الانفراد بالسيطرة على العالم قد خلقت دينامكية ممانعة وحركة رفض هي حركة العولمة المضادة وهذه الحركة تشكل فرصة التغيير التي يجب على القوى الحية في شمال إفريقيا أن تستغلها للسير الحثيث نحو ما تنشده من تحول وانزياح.
كما أنها تمثل نذير ا للأحكام الاستبدادية لجعلها تدرك ضرورة إفساح المجال أمام عوامل الحداثة والارتقاء. على أن قيام الديمقراطية ليس عملية يسيرة تتم بين عشية وضحاها سيما ضمن سياقات مثل سياقات بلدان الشمال الإفريقي. بل تتطلب بذل مجهودات مضنية ودءوبة تتجسد في وضع استراتيجيات محكمة تستهدف : محاربة الفقر المدقع والقضاء على الأمية والمرض والعقليات الماضوية والعمل على وضع أسس وتوفير شروط التنمية المستديمة واستنفار كل الوسائل المتاحة للتنوير والتوعية ونشر ثقافة المواطنة وإشاعة المثل العليا والقيم السامية سعيا إلى خلق مناخ موات وتهيئة أرضية ملائمة لاستنبات وتبيئة الديمقراطية بما تقتضيه من ذهنية ومسلكيات وقيم وممارسات تتماهى وطبيعتها كنسق يقوم على العدل والمساواة وصيانة الحريات والمشاركة الواسعة في إدارة الشأن العام.
وضعية حقوق الإنسان والديمقراطية في موريتانيا
ان موريتانيا كما هو معلوم بلد مغاربي متاخم لبلدان الساحل الإفريقي ومن ثم فهو بلد عربي ساحلي مسلم في ذات الوقت وبذلك يكون قد اجتمع فيه ما تفرق في غيره مما تعرضنا لذكره آنفا من العقليات والممارسات المعيقة لصيانة حقوق الإنسان وازدهار الديمقراطية. لكن البلد يتفرد بكونه لم يعرف من الاستعمارات إلا الاستعمار الفرنسي ولفترة لا تزيد على نصف قرن. وعليه فإن المجتمع الموريتاني قد بقي على ما قد كان عليه منذ القدم من بداوة، بما يتضمنه ذلك من فطرة وتلقائية، ولكن أيضا من بدائية ورفض للانضباط والنظام.
فالمجتمع الموريتاني ـ في غالبيته ـ لم يعرف التقري والمدنية إلا منذ بضعة عقود. ولم ينصع نهائيا لهذا النمط الحياتي إلا نتيجة لجائحة الجفاف التي حاقت بالبلاد في السبعينيات وقضت على معظم ثروة البلاد الحيوانية.
ولقد كان السواد الأعظم من الموريتانيين إلى عهد قريب ينظر إلى الدولة وما تمثله من سلطة على أنها كيان غريب عليه تركه المستعمر الفرنسي ولا شأن لهم به. وهو كيان فوق الجميع جاء رغم أنف كل أحد ولا تطاله إرادة أحد والحزم هو الإذعان لأوامره والخضوع لإرادته. وهذا أسسا هو ما شكل الأرضية الملائمة لقيام الحزب الواحد السلطوي الذي فرضه الرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله غداة استقلال البلاد. وهو كذلك ما سهل، بالتضافر مع عوامل أخرى، ظهرت فيما بعد، استيلاء الجيش على السلطة سنة 1978.
بيد أنه اعتبارا من السبعينات بدأ الوعي السياسي ينتشر ويتجذر في أوساط الطلاب والمثقفين والعمال حيث استطاعوا رغم قلة عددهم، إنشاء حركة سياسية وطنية فاعلة خلقت المناخ الملائم لصحوة وطنية معتبرة وشكلت باكورة لقوى وطنية ما فتئت تنمو وتتسع باضطراد.
وقد قاومت هذه القوى بمختلف أطيافها ومشاربها الإيديولوجية قمع الحكم العسكري، وصمدت في وجه سياساته التعسفية، وقاومت النظام السلطوي الذي توشح بوشاح الديمقراطية بعد أن خلع البزة العسكرية، والذي أفل نجمه غداة 3 أغسطس سنة 2005، لتحل محله السلطة العسكرية الانتقالية التي مكنت بفضل تعبئة القوى الحية الموريتانية وتضافر جهود كل مكوناتها وحذرها وبفضل ضغوط المجموعة الدولية والشركاء في التنمية وأنصار الديمقراطية في العالم مكنت من تنظيم انتخابات تعددية حرة وشفافة ونزيهة أفضت إلى قيام مؤسسات ديمقراطية وفق المعايير المتعارف عليها دوليا.
ولولى تعبئة القوى السياسية الوطنية وهبة المجتمع المدني الموريتاني وضغط المجموعة الدولية والمنظمات الإقليمية والدولية لاتخذت الأمور مجرى آخر غير ذلك المعلن عنه ولكن النضج الذي وصلت إليه القوى الحية الموريتانية والحنكة التي أظهرتها قد منعا أي انحراف وحالا دون تنفيذ أية أجندة خفية رغم تواجد الرغبة في ذلك لدى بعض الانقلابيين وعند ما انجلى الغبار عن التجربة الديمقراطية الموريتانية إذا بها على إيجابيتها وعلى فرح الشعب الموريتاني بنجاحها تحمل بصمات العسكر كما أنها لم تسلم من تأثير قوى الفساد التي كانت تحيط بالنظام الاستبدادي السابق.
وبالنتيجة أضحت البلاد، وهنا تكمن مفارقة جديرة بالاهتمام تتوفر على نظام ديمقراطي يرأسه رئيس منتخب ذو مصداقية حقيقية لكنه مدعوم من طرف أغلبية برلمانية تضم من بين أعضائها مجموعة كبيرة من رموز الفساد المعروفين على الساحة الوطنية. وتسير شؤون البلاد إلى جانبه حكومة يفتقر أغلب أعضائها إلى الحد الأدنى من الكفاءة المهنية والصدقية الاجتماعية. ومع ذلك فقد تم في ظل هكذا حكومة الترخيص لكل القوى السياسية بما في ذلك التيار الإسلامي بتشكيل أحزاب سياسية دون مراوغة ولا تلكؤ، وكفلت حرية الصحافة، وعززت استقلالية العدالة، وتمتع كل المواطنين بكافة الحريات الأساسية التي يكفلها لهم الدستور،
ومثل كافة سجناء الرأي الذين كانوا قيد الاعتقال أمام القضاء وحوكموا وأطلق سراح من ثبتت براءته منهم، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام منظمات المجتمع المدني، ناهز عددها ثلاثة آلاف منظمة منها ما يربو على المائة يعني بحقوق الانسان. ودخلت عملية التشاور والحوار في مسلكيات الدولة على كل مستوياتها.
وفي هذا السياق تم تنظيم أيام تشاورية حول كل القضايا الوطنية الكبيرة مثل قضية المبعدين إلى السنغال سنة 1989، وقضية مخلفات الرق، وقضية الإرث الإنساني. وكانت القرارات التي تم اتخاذها حيال كل هذه الإشكاليات نتيجة أخذ ورد، وثمرة تراض وتوافق بين الجميع. فلم تبق هناك خطوط حمراء لا يطالها النقاش والحوار، ولم تعد ثمة تابوهات يحظر الخوض فيها، ولم تبق هناك منظمات محظورة أو أطروحات ممنوعة، وبالنتيجة لم تبق أية منظمة أو تيار فكري في المهجر كما كان عليه الأمر من قبل. بل عاد الجميع إلى أرض الوطن وأصبح الحوار والجدل محتدمين لكن في هدوء ومسؤولية وقبول بالآخر.
وتم فتح وسائل الإعلام العمومية أمام الآراء والأفكار على تنوعها وتباينها. وبدأت الأمور تتجه إلى تحرير قطاع الصحافة المسموعة والمرئية وكذا السمعيات البصرية.
وتجدر الإشارة من جهة أخرى إلى أن الموضوع الذي ارتكز عليه خطاب رئيس الجمهورية المنتخب السابق إبان افتتاح المجلس الأعلى للقضاء بقيد 2008 هو الشفافية في تسيير المال العام وحسن الحاكمية وضرورة المساءلة.
وعلى الصعيد الاقتصادي فقد التزم الممولون بتوفير أموال قد فاقت بكثير ما تحتاجه البلاد لتمويل برامجها التنموية للسنوات الثلاثة القادمة.
هذا كله واقع لا مراء فيه لكن لا مراء أيضا في أنه منذ بداية التجربة الديمقراطية بالبلاد قلت السيولة بشكل غير مسبوق وارتفعت أسعار المواد لاستهلاكية الأساسية على نحو جنوني مما أدى إلى اضطرابات عمت معظم أنحاء البلاد وشملت كل القطاعات الاجتماعية وقد قاد ذلك إلى صدامات عنيفة ودامية مع قوى الأمن أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا بين قتيل وجريح.
فحصل تذمر كبير في مختلف الأوساط الشعبية بلغ أحيانا حد الاشمئزاز من الديمقراطية والتطير بها ولم تهدء الاجراءات التي تعهد بها الحكم السابق لمواجهة الأوضاع من روع المواطنين إذ أنهم لم يصدقوها. كما أنه في الوقت الذي كان يجري فيه الحديث عن الشفافية والمساءلة والحكم الرشيد تم طرد مراقب للدولة معروف شعبيا حيث كانت له صولات وجولات لاسترداد بعض الأموال العمومية المختلسة واستعادة بعض ممتلكات الدولة المنهوبة، وذلك لأن نشاطه الرقابي قد طال أحد المتنفذين في النظام الفارط.
تلكم كانت لمحة عن التجربة الديمقراطية الموريتانية بما لها وما عليها وعجالة عن أوضاع المجتمع المدني الموريتاني وعن مشاركته المتنامية في صياغة مصير البلاد ومواكبة مسيرتها ومراقبة تنفيذ سياساتها.
بيد أنه لا يسعني في ختام هذه المعالجة السريعة إلا أن أعرب عن تخوفي من مغبة ظهور التطرف الديني في موريتانيا التي لم يعرف سكانها قط غلوا ولا شططا في أمور دينهم بل إنهم قد اشتهروا على مر الأيام بالتسامح دون تفريط وبالتساهل دون إخلال بالقواعد الشرعية.
فالعمليات الإرهابية التي قيم بها ضد موريتانيا في كل من المغيطي في يونيو 2005 والغلاوية في 17 دجنبر 2007 وتورين في شتنبر 2008. واغتيال الرعايا الفرنسيين قرب ألاك في شهر دجنبر 2007.
وكذا العملية الارهابية بنواكشوط في ابريل 2008 واختطاف الرعايا الاسبان في نوفنبر 2009 والتهديد المتواصل لأمن واستقرار موريتانيا هي من فعل تنظيم القاعدة بالمغرب العربي التي قررت تحويل المنطقة إلى ساحة للعمل الإرهابي وإلى بؤرة للتوتر والاحتراب.
والتحاق بعض الشبان الموريتانيين بهذه الحركة وإقدامهم على ارتكاب أعمال إرهابية من هذا النوع إنما ينبئ عن تسرب عدوى الوضع المتأزم القائم في بعض دول الجوار إلى موريتانيا ـ نتيجة لظهور ظروف مشابهة للظروف القائمة هناك على أن الظروف الموضوعية القائمة في البلدان المغاربة والتي شكلت تربة صالحة لاستنبات مثل هذه الحركة هي في طريقها إلى التوفر في موريتانيا إذا لم يتم تلافي ذلك بكل الوسائل المتاحة.
ولا ريب أن من بين هذه الظروف الفقر المدقع وبطالة الشباب وانسداد الآفاق في وجوههم. يضاف إلى ذلك تفاقم النقمة الشديدة على قوى الطغيان والتسلط التي تقوم بشكل مباشر وغير مباشر بتقتيل وتحريق الأطفال والنساء والشيوخ في العراق وفي فلسطين وأفغانستان وغيرها والتي توفر الدعم اللامشروط والتغطية الدبلماسية الكاملة لإسرائيل وتبارك تماديها في البطش والتنكيل بالفلسطينيين دون أدنى وازع من الضمير أو اعتبار للحق والعدالة.
ومن هنا فإنه لكي يصار إلى تجفيف منابع الإرهاب وإلى تفادي انتشار العنف الأهوج في المنطقة المغاربية، فإنه يتوجب العمل الدءوب من أجل محاربة الفقر وإحلال الأمل محل اليأس وإشعاع الفكر المستنير لدمغ ودحض الفكر لظلامي الماضوي المتحجر وتعميق الثقافة الديمقراطية وعقلية التسامح والانفتاح والقبول بالآخر.
وهذه المسؤولية يجب أن تساهم في الاضطلاع بها كل فعاليات المجتمع المدني وكافة القوى الوطنية الحية التي يتعين عليها تكثف نشاطاتها الهادفة إلى دعم وتشجيع جهود الأنظمة القائمة الهادفة إلى بلورة سياسات ملائمة لمواجهة هذه الأوضاع الخطيرة بما تتطلبه من خرم وتبصر وصلابة.