ما تزال الحملة الإعلامية التي يشنها بعض الصحف الجزائرية ضد موريتانيا، مستعرة.. فبعد هجومها غير المسبوق، وذي الدوافع المشبوهة، على النظام الحاكم في بلادنا، عبر استهداف وزير الصحة الشيخ المختار ولد حرمه ولد ببانا؛ إثر تعبيره عن موقف وطني صادق اتجاه تخاذل بعض السياسيين في بلاده عن واجب نصرة جيشهم الذي يخوض مواجهة مسلحة ضد عصابات إرهابية سبق لها أن اعتدت عليه أكثر من مرة وقتلت بدم بارد عشرات من أفراده غيلة ودون أي مبرر؛ ها هي صحيفة “الشروق” الجزائرية تعيد الكرة من خلال محاولة زرع الفتنة والشقاق بين الموريتانيين وإيهام قرائها وجود سياسيين موريتانيين يقفون مع الجماعات الإرهابية ضد بلادهم!
التقرير الذي نسبته الصحيفة لموفدها إلى جلسات الحوار الوطني حول الإرهاب والغلو والتطرف، الذي نظم في انواكشوط مؤخرا، لم يترك أي مجال للشك في سوء نوايا هذه الصحيفة القريبة جدا من بعض الأوساط النافذة في بعض أجهزة الاستخبارات الجزائرية.. وهو ما يستشف – بجلاء- من خلال “تقرير” مبعوثها إلى العاصمة الموريتانية، سامي سي يوسف، الذي يمكن وصفه بأي شيء سوى كونه تغطية صحفية مهنية وموضوعية.
فحين ينسب سي يوسف لرئيس حزب “تواصل” قوله إن الفوارق الاجتماعية بين فئات الشعب تعتبر من أهم عوامل انتشار الإرهاب والتطرف، وأن التنمية تشكل أهم وسيلة لكبح هذه الظاهرة، ثم يستدل بذلك على أنه صك براءة لصحيفته من التهم التي وجهها إليها العديد من الموريتانيين وليس وزير الصحة وحده، ينسى (عن قصد، أو عن جهالة بأسط أبجديات العمل الصحفي) أن ذلك يؤكد -بشكل لا مراء فيه- مستوى الديمقراطية وحرية التعبير الذي وصلت إليه موريتانيا في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ والذي ما يزال حلما صعب المنال في العديد من البلدان العربية والإفريقية، بما فيها تلك المجاورة لموريتانيا..
من الواضح أن مراسل “الشروق” -أو مخبرها على الأصح- فوجئ بما شاهده من حرية ونقاشات داخل قصر المؤتمرات في انواكشوط بين الفرقاء السياسيين في موريتانيا على تباين رؤاهم ومواقفهم، ومن تقبل للرأي الآخر لم يسبق له أن تخيله إلا في بعض بلدان الغرب المتقدمة جدا..
لقد فوجئ أكثر بوجود حزب إسلامي في موريتانيا يشارك في الندوات والحوارات الوطنية الكبرى، كأي حزب آخر ليبرالي أو يساري أو يميني.. فوجئ بوجود حزب يقوم على أيديولوجية عرقية يطالب بالمساواة ويدعو –علنا- إلى محو الفوارق الاجتماعية.
إنها الديمقراطية الموريتانية التي أزعجت الكثير من الأشقاء والجيران، الذين يخشون أن يصل إشعاعها إلى ما وراء الحدود الموريتانية.. ومن حقهم أن يخشوا من ذلك، تماما كما يحق لموريتانيا أن تحترز من تطاير شظايا العنف والإرهاب خارج حدود أولئك الأشقاء والجيران لتصل إلى أراضيها، كما حدث في لمغيطي وتورين والغلاوية وألاك والنعمة.
لا شيء في “تقرير” مخبر “الشروق” يمكن أن نفهم من خلاله ما اعتبره “تبرئة” للجزائر من تهمة دعم الإرهاب، و”اتهاما” لولد حرمه والحكومة الموريتانية بذلك..
لا شيء في “التقرير” يفسر أسباب تحامل بعض الصحف الجزائرية والقوى التي تقف وراءها للسلطة في موريتانيا، ولوزير الصحة الموريتاني تحديدا..
الواقع أن هذه الحملة تدار من خلف أروقة جهات نافذة وقريبة من مركز القرار السياسي عموما، والأمني على وجه الخصوص ضمن مسلسل استراتيجي بدأت أولى فصوله بانقلاب 1992 على المسار الديمقراطي الذي قاده الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، خليفة الرئيس الراحل هواري بو مدين؛ إثر اكتساح التيار الإسلامي المعتدل -ممثلا بالجبهة الإسلامية للإنقاذ- غالبية المجالس البلدية والمقاعد النيابية عند فرز النتائج الأولية للانتخابات العامة آنذاك.. وتجلت مظاهر ذلك المسلسل في اعتماد جهات عسكرية جزائرية أسلوبا مخابراتيا يقوم على خلق تنظيمات تحمل شعارات الخصوم وتمارس إرهاب الناس وأبشع صور العنف وأكثرها دموية، سبيلا إلى تأليب الرأي العام المحلي والخارجي ضد أولئك الخصوم.. وهكذا ظهرت “الجماعة الإسلامية المسلحة” وأدخلت الجزائر في دوامة من العنف خلفت عشرات الآلاف من الضحايا في صفوف المواطنين؛ بمن فيهم الصحفيون والسياسيون الذين كانت لهم مواقف لم تستسغ عملية إجهاض المسار الديمقراطي..
إحدى الحلقات البارزة في مسلسل الصراع على النفوذ بين كبريات مكونات المشهد العسكري والأمني في الجزائر كانت اغتيال الرئيس محمد بوضياف الذي رأى فيه بعض قادة تلك المكونات “خطرا” على استراتيجياتها؛ حيث شهدت فترته تقاربا واضحا بين الجزائر وجيرانها، بمن فيهم المملكة المغربية..
بعد ذلك جاءت حلقة تأسيس تنظيم إرهابي جديد، أطلقت عليه تسمية “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” فيما استهدفت أجهزة الأمن قادة التنظيم السابق.. ويحرص عدد من المتابعين لتطور الحركات المتطرفة في الجزائر، على الربط بين مختلف تلك التطورات وبين التقلبات على مستوى قمة هرم السلطة في الجزائر..
من ذلك رحيل الجنرال خالد نزار، الذي يوصف بأنه مدبر انقلاب 1992 ضد نتائج الاقتراع، وبأنه العقل المؤسس والمحرك للجماعة المسلحة الأولى في هذا البلد.. ومن ذلك أيضا التجاذب بين كل من رئيس الحكومة السابق عبد العزيز بلخادم وسلفه الذي خلفه فيما بعد، أحمد أويحيى؛ وهي التجاذبات التي يربط بعض المحللين بين حدتها وبين تفجير مبنى الحكومة بالجزائر العاصمة، والذي لا يستبعد هؤلاء أن يشكل مؤشرا إضافيا على ارتباط الجماعات المسلحة التي تبنته بجهات نافذة جدا داخل الأمن الجزائري.. ناهيك عن استقدام رفيق درب بومدين ورئيس دبلوماسيته، عبد العزيز بوتفليقة وترشيحه رئيسا للجمهورية، وتجديد ولايته لفترات متتالية..
ولعل أهم مرحلة في هذا المسلسل الدرامي، كانت تحويل الجماعة السلفية للدعوة والقتال إلى “تنظيم القاعد ببلاد المغرب الإسلامي” الذي دشن عملياته بالهجوم الغادر على مفرزة من الجيش الموريتاني بمنطقة لمغيطي القريبة جدا من الحدود مع الجزائر. لتتوالى اعتداءاته على موريتانيا.. وأكثرها دموية وقعت قريبا من الحدود الشمالية الشرقية، وليس الحدود مع مالي.
مؤشرات كثيرة ومتعددة اعتبرها جل الخبراء والباحثين المهتمين بتنامي ظاهرة الإرهاب في منطقة الساحل وشمال غرب إفريقيا، خيوطا تربط بين قادة وأمراء الجماعات المسلحة وشبكات تهريب الأسلحة والمخدرات والمهاجرين غير الشرعيين إلى الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، من جهة، وبين قيادات ذات تأثير في مفاصل القرار السياسي في الجزائر من خلال التحكم في بعض الدوائر الأمنية ذات الأذرع الأخطبوطية القوية.. ولا يستبعد هؤلاء المراقبون والمحللون أن تكون عملية اغتيال المدير العام للأمن الجزائري جزءا من تمظهرات تلك التطورات.
خروج –أو إخراج- الجماعة السلفية الجزائرية، بتسميتها الجديدة، وبقيادتها الحالية إلى منطقة خارج الأراضي الجزائرية لتمارس إرهابها في الأراضي الموريتانية، وفي المغرب وبلدان الصحراء تزامن مع بدء استغلال النفط الموريتاني في حقل “شنقيط” سنة 2005، مثلما تزامنت عمليات الغلاوية وتورين وألاك مع بدء التنقيب في حوض تاودني.. بينما كانت الجزائر تسعى إلى شق طريق عابر للصحراء بين تيندوف وموريتانيا، وإقامة خط أنابيب لتصدير النفط والغاز الجزائريين عبر الموانئ الموريتانية باتجاه مناطق في أمريكا وإفريقيا جنوب الصحراء؛ وهي مساع تم تكثيفها أواخر عهد الرئيس الموريتاني السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله..
بيد أن الإطاحة بولد الشيخ عبد الله وتبني الجزائر موقفا متشددا جدا من قادة موريتانيا العسكريين؛ وخاصة الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي تعتبره أوساط نافذة في مركز القرار الجزائري “قريبا من المغرب” وسعيها لحمل الاتحاد الإفريقي على فرض عقوبات ضد المجلس العسكري الذي أطاح بولد الشيخ عبد الله، ومن ثم ترويج وسائل الإعلام الجزائرية لمواقف المعارضة الموريتانية المشككة في نتائج اقتراع يوليو 2009، الذي مكن ولد عبد العزيز من الفوز بثقة غالبية الناخبين الموريتانيين في الشوط الأول؛ كلها عوامل ساهمت في اتساع نطاق الحملة الجزائرية الموجهة ضد النظام الموريتاني..
حدة هذه الحملة زادت خلال تدخل الجيش الموريتاني في مالي لضرب معاقل تنظيم القاعدة في الصحراء بشمال هذا البلد؛ إذ تبين من خلال تقاعس الجزائر عن مؤازرة القوات الموريتانية رغم اتفاق التعاون الأمني الذي وقعه البلدان مع بلدان أخرى في المنطقة، وهو تقاعس ولد العديد من علامات الاستفهام حول حقيقة النوايا الجزائرية اتجاه انواكشوط.. وساهمت الحملة الإعلامية في بعض الصحف الجزائرية القريبة من الدوائر الأمنية هناك، في تلبيد سماء العلاقات بين البلدين وتراكم مزيد من طبقات الجليد على تلك العلاقات..
في هذا الخضم، دخل وزير الصحة الموريتاني، الشيخ المختار ولد حرمه ولد ببانه، على الخط مستهدفا رئيسيا في الحملة الإعلامية تلك؛ حيث وصفته “الشروق” بأنه موال للمغرب، وبأنه يعبر عن وجهة نظر الحكومة الموريتانية.
أعتقد أن من غير الوارد تحميل صحيفة “الشروق” أو غيرها من الصحف الجزائرية فوق ما في متناولها، وأن من الخطأ أن نطلب من المدعو سامي سي يوسف مستوى من المهنية والحياد والموضوعية في نقل الأخبار والتعاطي مع الأمور..
فلا “الشروق” صحيفة إخبارية مستقلة، ولا سي يوسف صحفي مهني حر.. ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، والمدرسة “البرافداوية” لا تتضمن “مناهجها” أيا من قواعد العمل الصحفي المتعارف عليها في مختلف المدارس الصحفية الأخرى عبر العالم.. كما أن سياسة “البروسترويكا” التي فككت الاتحاد السوفيتي وحررت كل الجمهوريات التي خضعت لسيطرته، وحررت إعلامه من قبضة “البرافدا” لم تنجح في تجاوز حدود أوروبا الشرقية وقلة من بلدان إفريقيا..
ما لم يكتبه موفد “الشروق” هو أنه وجد في موريتانيا كل الظروف المواتية للقيام برسالة إعلامية ناجحة، وأنه فضل استغلال تلك الظروف –التي لم يعهدها من قبل– لأداء “المهمة” التي أوكلت إليه؛ بعيدا عن التغطية الإعلامية المهنية والموضوعية.
لم يرد في التقرير أي من المواقف –شبه المجمع عليها- المعبر عنها من قبل الغالبية العظمى من العلماء والخبراء العسكريين وقادة الأحزاب السياسية من الأغلبية والمعارضة (مفهوم غريب على صاحبنا!) وقادة الرأي من المفكرين والإعلاميين والباحثين والأساتذة الجامعيين، الذين أكدوا ضرورة المقاربة الأمنية لضمان نجاح المقاربات الأخرى، وفي طليعتها الحوار الذي لم يتجسد فعلا إلا في موريتانيا..
لم يشر “تقرير” سي يوسف إلى الكم الهائل من ميكروفونات وكاميرات مختلف فضائيات ومحطات العالم ووكالات الأنباء التي غصت بها قاعات قصر المؤتمرات؛ والتي يقيم مراسلوها ومديرو مكاتبها في موريتانيا، مع أنه لم يتعود مثل هذا المشهد في بلدان تمنع أكثر القنوات انتشارا وتحظر تنقل الصحفيين داخل أراضيها دون مراقبة ومرافقة أمنية محكمة الطوق.
لم يشر سي يوسف إلى الجهات التي ادعى أنها “فشلت في تمرير مزاعم مفادها أن الجزائر هي التي تصدر الإرهاب إلى دول الجنوب، وخاصة موريتانيا”.. إنه الأسلوب “البرافداوي” بامتياز! نفس المنطق الطفيلي في محاولة الضحك على ذقون الأغبياء.. كيف يعقل أن يخفي “موفد خاص” لوسيلة إعلام شبه موجهة بهذا الشكل المفضوح “معلومات” تدعم دعايته وطرح من يملون عليه ما يكتب؛ بينما يكشف عن جهتين حاول –يائسا- تأويل مواقفهما لصالح الدعاية نفسها؟
وأخيرا تعمد معد التقرير، أو من راجعه من بعده، عدم الإشارة إلى محاولاته، المتكررة –والفاشلة- لقاء وزير الصحة الموريتاني الذي اعتبره “مواليا للمخزن المغربي” عبر قنوات محلية مكشوفة عملت على تسهيل “مهمته” و”اتصالاته” في موريتانيا..