منذ سنة 1946 م اعتبرت موريتانيا عضو في الإتحاد الفرنسي كإقليم من أقاليم ما وراء البحار، متمتعة بنواة للكيان السياسي المستقل، وقد وجد على رأس الإقليم والي عام بيده السلطات المدنية والعسكرية، أي أنه يمارس كافة صلاحيات السلطة التنفيذية.
أما السلطة التشريعية فإنها متروكة لمجلس إقليمي يتم انتخابه رغم محدودات صلاحياته، كما يعين المجلس الإقليمي مندوبين مكلفين بالمشاركة في المجالس الكبرى لإفريقيا الفرنسية .
في تلك الفترة كانت الأحداث السياسية ممثلة في موريتانيا، ولكن الحزب الأكثر تأثيرا ظل التجمع الديمقراطي الإفريقي من خلال الإتحاد التقدمي الموريتاني الذي عاش معه حزب الوفاق الموريتاني كمنافس أكثر ابتعادا عن المستعمر ، على الرغم من تقارب برامجهم السياسية، وكان الجدل السياسي يتمحور حول قطبي الاقتراب أو الابتعاد عن الإدارة الاستعمارية وكذا التمثيل البرلماني، ذلك أن قانون الإطار سنة 1957 م أدى إلى تأسيس مجلس للحكومة منتخب من طرف المجلس الإقليمي ، مما أدى إلى تصعيد التنافس بين الحزبين الكبيرين.
ظل الإتحاد التقدمي الموالي للإدارة الاستعمارية يمثل القوة المهيمنة على الساحة الوطنية ويتضح ذلك جليا من النتائج التي حققها، والتي من أهمها بروز الوزن الساحق لطبقة النبلاء والزعامات التقليدية أو ما يعرف بالمتحالفين مع المستعمر، كذلك إقبال الجماهير على العملية الانتخابية بالمقارنة مع الماضي، أي حدوث قفزة نوعية في المشاركة السياسية، كذلك الاهتمام بالشأن العام وإن كان تطبعه نظرة تقليدية من خلال الوسط التقليدي – الأسرة ، القبيلة ، الجهة – بدل التأثير الذي تمارسه التشكيلات السياسية الحديثة.
تميزت الحياة السياسية في تلك الفترة بلعب العامل الجيوبولوتيكي دورا مهما في تحديد اتجاهات الرأي العام، وتطور الحياة السياسية في البلاد، ذلك أن موضوع الاستقلال الساخن ظل متأثرا باتجاهات الرأي والأفكار المدعومة من الشمال والجنوب.
فمن القوى القومية العربية ذات الامتدادات في المغرب العربي والوطن العربي عموما، وجدت النهضة الوطنية التي ظلت تتعاطف مع مصر الناصرية وتحتفظ بعلاقاتها مع الحزب الدستوري التونسي إضافة إلى حزب الاستقلال المغربي والثورة الجزائرية، لأن الأمة العربية كانت تعيش مدا تحرريا، أما في الطرف الآخر الإفريقي فكانت هنالك كتلتين كبيرتين هما التجمع الديمقراطي الإفريقي والتكتل الإفريقي.
مجمل ما يمكن قوله عن هذا العهد أن انفتاح موريتانيا جاء متأخرا لذلك شهدت هذه الفترة – 1946 م – 1958 م، البدايات الأولى لعملية التحديث السياسي في ظل السيطرة الاستعمارية، إلا أن هذه الأحزاب البراغماتية لم تكن مشاريع سياسية واضحة تهدف إلى غايات سياسية سوى تحقيق كسب انتخابي عاجل وهي بذلك أقرب ما تكون إلى اللجان الانتخابية في الغرب.
شهدت سنة 1958 م إعلان الجمهورية الإسلامية الموريتانية كدولة متمتعة بالحكم الذاتي، وفي مواجهة التحديات العديدة اتجه التفكير نحو البحث عن الآليات المناسبة لتحقيق الوحدة ، وذلك بتجميع كافة السلطات في يد رئيس الحكومة والنخبة الحزبية الحاكمة ، التي جوبهت بمقاومة القوى الحزبية المعارضة ، والتي أفضت إلى نداءات متكررة تمخض عنها مؤتمر ألاك التوحيدي في مايو 1958 م وتأسيس حزب التجمع الموريتاني ، وإن كانت قوى عديدة بقيت خارجه مثل حزب النهضة الذي بات منبرا للمعارضة الجديدة.
توالت التطورات اللاحقة حتى استحوذ على حزب النهضة بعد عدة ضغوطات وتم الإعلان عن ميلاد حزب الشعب الموريتاني كحزب وحيد في البلاد ، مما شكل بداية المسيرة نحو الواحدية.
تميزت هذه الفترة – 1961 م -1978 م بسيطرة الحزب الواحد واحتكار السلطة السياسية ، مما أدى إلى غلق قنوات المشاركة بصفة شرعية خارج تنظيمات الحزب وهياكله وإدماج المؤسسات الدستورية التي أصبحت خاضعة لرقابة الحزب وامتداده عبر الأجهزة الإدارية الرسمية .
لقد أدت الأزمة الخانقة التي تعرض لها الحكم المدني ابتداء من 1976 م إلى إعطاء الجيش فرصة للتدخل ، خاصة أن هذا الأخير قد خسر نصف المعركة في حرب الصحراء ، وهو ما حدث بالفعل حينما أطاح الجيش بالنظام المدني صبيحة العاشر من يوليو 1978 م .
لقد شكلت المؤسسة العسكرية في موريتانيا منذ 1978 م – 1992 م النخبة السياسية التي سيطرت على الأوضاع السياسية العامة والاختيارات الكبرى للدولة ، فهي التي تضع الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتوخاة ، ومن أهم الإصلاحات السياسية التي جاءت بها اللجنة العسكرية هي تجميد حزب الشعب الموريتاني ، وإقامة هياكل تهذيب الجماهير لاحقا إضافة إلى التجربة البلدية كقنوات رسمية للمشاركة في صنع القرار السياسي .
لقد شكلت الهياكل حزب الدولة الرسمي ، الذي التفت حوله كل الزعامات التقليدية بدافع الحفاظ على الامتيازات ، وإن كان واقع الأمر يوضح أنه تنظيم إداري فرض على الشعب ليمتص نقمته لتحقيق هدفين أساسيين هما : تعبئة الشعب من أجل المشاركة في عملية البناء الوطني ، ثم تعزيز مكانة السلطة لدى الأوساط الشعبية .
في ابريل 1991 م عرفت موريتانيا ما يعرف بالانفتاح الديمقراطي التعددي الذي جاء نتيجة مؤثرات خارجية واضحة المعالم ، تجلت أساسا في الوضعية الفرانكفونية وقمة لابول في يوليو 1991 م التي حضت فرنسا فيها على المعايير الديمقراطية ، ثم الظرفية الإفريقية التي عانت من رياح التغيير التي اجتاحت المعسكر الشرقي ، بالإضافة إلى البعد الاقتصادي المتمثل في تدخل المؤسسات المالية الدولية – البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي.
في ظل هذه الظرفية الدولية ، عرفت الأوضاع السياسية في دول العالم الثالث اضطرابات عنيفة إثر انتهاء الحرب الباردة وبروز الأحادية القطبية بعد انهيار المعسكر الشرقي وما رافق ذلك على المستويات الداخلية لكل بلد من مظاهر تصدع مؤسسات الدولة المركزية وانبعاث الدعوات للمؤتمرات الوطنية والنزاعات الضيقة وتعدد الو لاءات .
لم تكن موريتانيا بمنأى من كل هذه التأثيرات السلبية ، ذلك أن هشاشة الوسط البيئي وحداثة مؤسسات الدولة وتأزم الوضع الجهوي على خلفية الانهيار الاقتصادي وحالة الحرب التي عرفتها البلاد نهاية السبعينات ، كل ذلك يرشحها أن تكون إحدى بؤر التوتر والاضطرابات .
في موريتانيا فإن فكرة إخضاع الأحزاب السياسية لقانون خاص بها ليست جديدة ، وإنما صاحبت نشوء الدولة ، حيث صدر قانون 136 – 60 بتاريخ 25 يوليو 1961 م لتنظيم الأحزاب السياسية وظل معمولا به حتى تم تكريس الحزب الواحد دستوريا ، ومع نهاية الحكم العسكري صدر قانون 024 – 91 بتاريخ 25 يوليو 1991 م ، تكونت بموجبه عدة أحزاب سياسية في ظل التعددية والانفتاح الديمقراطي ، على الرغم من غياب مثل هذه التشريعات في دول تصاغ مثالا للديمقراطية ، ويبرر ذلك بوجود تقاليد ديمقراطية وما تحظى به من هيئات وسيطة مختلفة تعتبر ضمانا لفرض المسار الديمقراطي وحمايته .
بعد الانفتاح الديمقراطي سنة 1991 م ، عرفت موريتانيا عدة تشكيلات سياسية ناهزت في عقدها الأول 27 حزبا على الرغم من أنها تحمل نفس المشروع السياسي الإصلاحي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
بالنظر إلى هذه الأحزاب يمكن التمييز بينها على أساس الموقع من السلطة باعتبارها الهدف المنشود داخل النسق السياسي الكلي القائم آنذاك إلى كتلتين هما : أحزاب الأغلبية الرئاسية وأحزاب المعارضة الراديكالية التي تحمل شعار التغيير الشامل ، وبين هذه الثنائية تقع أحزاب الوسط والتي هي تشكيلات أطر ونخب في ظاهرها ، إلا أنها تتسم بعدم القدرة على تمرير خطابها السياسي وكذا تعبئة الجماهير حول مشروعها الاجتماعي ، ولم تنجح هاتين الكتلتين في تحقيق انسجام دائم حيال الاختيارات الوطنية وإنما نسق قائم ورقابة مستمرة دون أن تضفي إلى إطار مؤسسي متكامل قادر على تحقيق التوجهات الكبرى للبلد .
خلال هذه الحقبة سيطر الحزب الجمهوري الديمقراطي والاجتماعي – الحزب الحاكم – على مناحي الحياة السياسية من خلال الو لاءات التقليدية خاصة في المناطق النائية والريف وانتهاز سياسة المد والجزر داخل كبريات المدن ، وامتد نفوذه بإيعاز السلطات العليا في البلد إلى إخضاع أجهزة الدولة في كنف نفوذ هياكله .
أما أحزاب المعارضة فإنها تتسم بعدم التجانس البنيوي وقدر كبير من التناقض الداخلي ، الشيء الذي حملها على عدم القدرة في الاستمرار والديمومة لتحقيق أهدافها ، زد على ذلك رغبتها الصارمة في الوصول إلى دفة الحكم مع عدم ترتيب الأوراق الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف ، بالإضافة إلى المضايقات المستمرة من النظام القائم إلى حد الحل والتعليق وما إلى ذلك من الخروقات السافرة والمتنافية مع أساسيات الديمقراطية التعددية .
إذا كانت الديمقراطية التعددية ارتبطت في بلدان غربية بظاهرة تفتيت السلطة وتوزيعها بين قوى متعددة ومراكز مختلفة لاتخاذ القرار ، عكس موريتانيا التي أدت فيها التجارب الانتخابية الأولية إلى تقوية مواقع القوى السياسية والاجتماعية المسيطرة ، وإن كانت قد غيرت من طريقة تعاملها مع السلطة كمجال عام قابل للشراكة ، ولم تسمح الانتخابات بتمثيل النخب السياسية المعارضة داخل المؤسسات الدستورية أو في أجهزة القرار الحكومي .
كما أن الديمقراطية التعددية تستند بشكل أساسي على مبدأ التعددية الحزبية المعبر عنها بتنوع الأحزاب المكلفة بقولبة الرأي العام وامتصاص صراعاته وتأطير اختلافاته ، غير أن الواقع في موريتانيا يعطي عكس ذلك ، فلم تستطع الأحزاب الاضطلاع بهذا الدور بالشكل المطلوب والمنوط بالعملية السياسية .
لقد أظهرت الانتخابات مدى الفشل الذي لحق بالأحزاب السياسية ، وقد كان من نتائج الظواهر السابقة أن حملت عملية التجديد السياسي إلى المجال السياسي الوليد مجموعات عديمة التأهيل السياسي وذلك في ظل منظومة قديمة تستند أساسا على الزبونية وثنائية السلطة ، القرابة والاكراهات المادية والنفوذ المالي .
جاء انقلاب أغسطس 2005 م ، الذي لقي اجماعا داخليا من لدن كافة الفرقاء السياسيين ومباركة فعلية من قبل المجتمع الدولي ، وضعت من خلاله السلطات الجديدة حدا لأزيد من عشرين سنة ، وذلك بإقامة مرحلة انتقالية من 19 شهرا مع توفير الضمانات الحقيقية ، وهي الحقبة التي أدت إلى تعايش كافة الأحزاب السياسية مع التوجهات الجديدة في الإصلاح والتغيير ، والتي سرعان ما أجهضت دون تحقيق الأهداف المرسومة لها أصلا .
خرج الشعب الموريتاني بإجماع عام بعد الانتخابات الرئاسية لسنة 2007 م ، وإن كانت قد ألقت بالتجربة الحزبية عرض الحائط وذلك بالفوز الساحق للتيار المستقل ، مما أثبت هشاشة الأحزاب بمختلف توجهاتها وبرهنت من جديد عن عدم قابليتها على تثبيت القواعد ، بالإضافة إلى ظهور ظاهرة الترحال السياسي الموسمي والذي لايخضع لأية قاعدة سياسية ، وهي الفترة نفسها التي شهدت ميلاد العديد من الأحزاب السياسية الجديدة مما يفسح المجال للتلاقح الفكري والإيديولوجي لأكثر من 75 حزبا في بلد لا يتجاوز سكانه ثلاثة ملايين نسمة .
في سنة 2008 م نشبت أزمة ثقة بين الجهاز التنفيذي والتشريعي حينما أقدم النظام على تعطيل عمل المؤسسات الدستورية وانقلب على الأغلبية البرلمانية المؤيدة له ، بالتالي الانقلاب على النظام الحديث العهد ، أفضت لاحقا إلى حركة تصحيحية في أغسطس 2008 م ، علقت بموجبها مؤسسة الرئاسة ، ودخل البلد مرحلة جديدة قوامها تصحيح المسار الديمقراطي عبر المنتديات العامة للديمقراطية ، الشيء الذي أفضى إلى شرخ عميق داخل المجتمع السياسي على أساس المسافة من النظام الجديد ، اتجهت غالبية المعارضة الجديدة مع الحزب الحاكم آنذاك – عادل – داخل قبة جبهة موحدة مقابل توجه المعارضة الراديكالية مع الأغلبية البرلمانية متعددة الأطراف خلف السلطات الجديدة .
بعد الانتخابات الرئاسية سنة 2009 م وتنصيب نظام جديد بطريقة ديمقراطية وبكل شفافية ، بدأت تلوح في الأفق توجهات جديدة تمليها طبيعة المرحلة ، التي أفضت إلى خريطة سياسية جديدة سمتها الأساسية تكتل الأحزاب داخل منظومة بقيادة التجمع من أجل الجمهورية – الحزب الحاكم – ولفيف من أحزاب الأغلبية الرئاسية مقابل منسقية المعارضة .
هنا تظهر الثنائية في تبادل الأدوار والازدواجية في المعايير، مما يعطي الانطباع بوجود أقطاب داخل النسق السياسي الموريتاني ، تجمعها المصالح المشتركة ، على الرغم من الولاءات المتعددة مما يوحي بإضعاف الطبقة السياسية داخل الأحزاب واستبدالها بنخب التبعية العمياء ، دون أن يخلق هذا الإطار أرض خصبة للتجديد على الرغم من تجاوز سن التقاعد للقيادات الكاريزماتية للطبقات المسيطرة على الأحزاب السياسية في موريتانيا ، فهل يتحقق الانفراج ؟