د. أحمد ولد نافع – باحث و أستاذ جامعي
في مثل هذه الأيام قبل نصف قرن من الزمن ولدت الجمهورية الاسلامية الموريتانية من الناحية الرسمية في 28 -11-2010 على يد جيل و نخبة مجالدة في صبرها و أناتها على بناء الدولة من دون وسائل معينة .
وربما ما ضاعف عبء معركة البناء أن ” البلد البرزخي ” ورث السيبة منذ بعدت به الشقة عن السلطان المركزي إثر انزياح الجزء الشمالي للدولة المرابطية قبل ذلك بعشرة قرون تقريبا بصنع الأحداث و الخطوب السياسية .. الشيء الذي جعل خزان الرمال و الرياح موئلا للقبائل المختلفة في صراعاتها اللامنتهية من أجل إشباع حاجاتها من هذا الصحراء الفسيحة الأرجاء الممتدة شمالا حتى البحر المتوسط و جنوبا حتى طلائع وحدود الغابة الافريقية و غربا حتى المحيط الاطلسي و شرقا ربما حتى ما وراء نهر النيل..!
إذن في جزء ما من هذه الصحراء الكبرى ، وخصوصا في حافتها الجنوبية الغربية ، تم رسم حدود و جغرافية الكيان ( موريتانيا) الذي تم استيراد اسمه من بطون التاريخ الروماني القديم يوم كانت الصحراء إحدى ممتلكات ذلك السلطان في زمان عزته و قوته .. وقد كان كل ذلك التاريخ الطويل للمكان و إنسانه حاضرا بقوة ، في أذهان الجيل المؤسس للدولة ، وفق ما روى لنا في نهاية القرن الفارط أبو الدولة الوليدة آنئذ ، الرئيس الراحل ، الأستاذ المختار ولد داداه ، من تفاصيل عن المخاض العسير لهذا المولود الجديد ، الذي تناوشته
المشاكل العراض حتى قبل تشريفه المشهد السياسي في غرب القارة السمراء !
و حين أدركت النخبة السياسية الفرنسية استحالة استمرار الاستعمار بشكله التقليدي المقزز ، قبلت بأن تحمل عصاها على كاهلها وترحل من المناطق التي عملت على أن تظل ، دائما و أبدا ، مناطق تخدم الدولة الفرنسية في كل الظروف و الأحوال ، ولكن حكم التاريخ كان أسرع و أقسى على هذه العقلية المتغطرسة البالية ، فحكم عليها نهائيا بالاندحار ، الشيء الذي لم يأت من فراغ ، بل كان خلاصة الوعي المتنامي بفعل ما راكمته جهود المقاومة التي بدأت منذ أول يوم دنست فيه الأراضي بأقدام الغازي الصائل من وراء البحار ، وكانت أشرس و أسرع باغتيال قائد الحملة ” اكزافي كابولاني ” ، الذي يقال إنه صاحب رأي استعمار هذا الجزء ” موريتانيا” ليكون حلقة تربط المستعمرات الفرنسية في شمال و غرب افريقيا ، ولكن المقاومة الوطنية عاجلت حلمه الاستعماري بضربة موجعة أفقدته حياته على يد فتية آمنوا بربهم بقيادة الشريف البطل سيدي ولد مولاي الزين ، ثم تنوعت المقاومة و شملت مختلف القبائل و المجموعات تحت قيادة الشيخ ماء العينين الذي تحولت معه المقاومة إلى تنظيم محكم و مؤثر ، و استمرت على يد أبناء موريتانيا من جميع جهاتها و أنحائها من عربها و زنجها في غالبهم ، و ربما كانت الصفحات الأخيرة في تاريخ المقاومة هي الفصل الذي كتبت أبرز أفكاره الحموية بقيادة الشيخ أحمده حماه الله شريف نيورو ( كما تلقبه الوثائق الاستعمارية الفرنسية) حيث أخذت المقاومة معه شكل المقاومة الثقافية و الممانعة و المقاطعة ، و تعزز ذلك سريعا بفعل نتائج و ترتيبات أوضاع الحرب العالمية الثانية ، التي أسدلت الستار على امبراطوريات الاستعمار التقليدي ( فرنسا في طليعتها) أمام قوى جديدة في مقدمتها أمريكا و ذلك منذ النصف الثاني من القرن العشرين .. وهكذا شهدت خمسينيات و ستينيات القرن العشرين ظواهر الوعي التحرري الذي يصل في مرجعيته الى نضال الآباء المقاومين لحركة الاستعمار كظاهرة معتدية على الإنسانية و تضرب مصداقية القوى المتغطرسة في الصميم ، و بذلك توالت عمليات حصول هذه الدول التي كانت مستعمرة على فرصة تقرير المصير في حدود ما يبقي على خرائط سايكس بيكو سارية المفعول دون اعتبار لما ألحقته هذه التقسيمات الاستعمارية بمكونات الأمم و الشعوب الثقافية و الاجتماعية ، الشيء الذي سيلد لاحقا حروب الحدود و القوميات ، و كانت موريتانيا التاريخية أحد الأمثلة على ذلك ، حيث اقتطعت منها أجزاء أبقي عليها ضمن حدود أريد لها أن تتبع دولا أخرى ، وذلك إمعانا في تجزئة المجزئ و تقسيم المقسم ، وفاء للمنطق الاستعماري الذائع ” فرق تسد”..!!
كانت هذه هي اللوحة التي كان محتما على ذلك ” الجيل المؤسس” أن يتعامل معها قراءة و فهما ووعيا و إخلاصا..
و بدايةَ ، فإن المتابع المنصف لا بد أن يعذر لهؤلاء و يكبر فيهم الشجاعة التي تحلوا بها و هم يخوضون معركة بناء دولة من أنقاض الاستعمار و فقر الموارد البشرية و المادية ، حيث إن عدد الأطر و الكوادر الشابة في ذلك الوقت كان محدودا جدا ، و كانت القبائل هاربة عن التمدن و التقري وراء قطعانها ومصدر عيشها الوحيد في هذه البيئة القاسية الضنكة.. و بالتالي للمرء أن يتصور حجم المفاجأة التي أصابت هؤلاء القاطنين في الفيافي المقفرة الوعرة حين جاءهم ” حامل أخبار الاستقلال و ميلاد الدولة “ّ!!
إن النقاشات التي دارت في نهاية الخمسينيات بين مجموعات الشباب الذين نشطوا في مختلف الفعاليات في ذلك الوقت سواء في ألاك أو أطار ، و الذين كانوا هم النخبة الواعية في ذلك الوقت ( مع الفارق طبعا مقارنة بمعايير أخرى) تركزت حول ضرورة البحث عن كيان مستقل له عاصمته ، ورفض القرار الاستعماري الفرنسي الذي كان يرغب في الإبقاء على ” اندر” ( سانت لويس ، في شمالي السنغال) كعاصمة تاريخية للاقليم الموريتاني ، و التعجيل بالحصول على الحقوق المدنية و السياسية ، ولو بصورة متدرجة ( من حكم ذاتي ولو تحت قيادة استعمارية في سنة 1958 كنتيجة لاستفتاء القانون الإطاري ) ولم تمضي سنتين بعد ذلك حتى نال الاقليم استقلاله ، كما طالب بذلك سكانه على لسان نخبته الشبابية الواعية في أكثر من مناسبة سابقة ..و كما هدفت إلى ذلك المقاومة المسلحة و الثقافية قبل ذلك بعقود .. وهي تردد المقولة الفقهية ” الخليلية ” : و جاز دفع صائل.!!
و بنظرة راجعة على ما حصل طيلة العقود السابقة فيمكن تقسيم التاريخ السياسي لموريتانيا إلى مرحلتين :
المرحلة الأولى : وقد بدأت منذ 1958 حتى العاشر من يوليو 1978 .. حيث شهدت هذه المرحلة معركة البناء و التأسيس للدولة مع ما رافق ذلك من أخطاء و خطايا عديدة ربما كما يري البعض ، إلا أنها أخطاء تتصاغر أمام النقاط التي تمكّن ذلك الجيل من تسجيلها ، كالحسم في موضوع الهوية العامة للدولة ، بأنها عربية افريقية اسلامية ، ولكن سبق الاشقاء في المغرب الى الجامعة العربية و تقديم الملك الراحل محمد بن يوسف ( محمد الخامس) لطلبه بإغلاق الجامعة في وجه الاعتراف بموريتانيا باعتبارها جزءا ” تاريخيا ” من الاقاليم الجنوبية للمملكة العلوية !
كل ذلك سدّ الباب أمام الدخول السريع للجامعة العربية في الستينيات ، رغم أن الزعيم جمال عبد الناصر اعتذر للرئيس المختار ولد داداه عن ذلك لاحقا ، مؤكدا أنه لم يكن يعلم بحقيقة القضية الموريتانية مع الوعد بزيارتها و الاطلاع على حقيقة شعبها العربي الافريقي المسلم ، الذي أشاد به عبد الناصر ووصفه بـ ” الشقيق ” في العيد الثاني عشر لثورة يوليو 1964 ، يعني بعد أربعة سنوات فقط من استقلال موريتانيا !
و كانت موريتانيا إحدي الوجهات المبرمجة لزيارة الزعيم العربي الكبير لولا أن تطورات حرب الاستنزاف ، و إعادة بناء الجيش و تعزيز الصمود بعد النكسة و قضية أيلول الأسود ، أبطأت من ذلك ، وكانت الزيارة المزمعة لزعيم القومية العربية هي سرّ التسمية الاستباقية لأكبر شارع في العاصمة نواكشوط ب”شارع جمال عبد الناصر ” تيمنا و احتفاءا وتسجيلا لنقاط على موضوع حسم الهوية !..
وشهدت هذه المرحلة خوض صراعات تعزيز الاستقلال الاقتصادي بالخروج النهائي من منطقة الفرنك الغرب افريقي و خلق عملتنا الوطنية ” الأوقية ” التي أزعجت الفرنسيين و أذهلتهم و صمموا على إجهاضها لولا حصولنا فوريا على دعم سخي من أشقائنا العرب الليبيين ، وهو ما جعلنا نتمكن من إصدارها بوديعة مالية من مائة مليون دولار بعد سنة من زيارة الأخ القائد معمر القذافي الى موريتانيا في 1972 .. وما أعقب ذلك من الانضمام إلى الجامعة العربية في سنة 1973 ..
إلا أن هذا المسار الاقتصادي لم يقطف الشعب ثماره التي عاجلها جفاف السبعينيات و حرب السيادة على الصحراء الغربية التي أنهت عمليا تلك المرحلة بما لها و ما عليها .. وكانت أقصي ما أمكن بلوغه من ذلك الجيل الحالم الذي وصل إلى أوضاع مقلقة ، كان يصعب عليه الاستمرار معها ، وفق مؤشرات الواقع المعيش .. و هذا ما فتح الباب أمام وضع جديد..
– المرحلة الثانية ، بدأت بسيطرة الجيش على السلطة منذ 1978 ، و حتى الثالث من أغسطس 2005 ، و المحصلة النهائية لها مع الأسف هي سلبية بشكل كبير ، بالرغم من بعض الإضاءات المتواضعة هنا أو هناك ، إلا أنها أرجعت موريتانيا دائما إلى نقطة الصفر بعد كل انقلاب يدعي أنه ” خلاص للوطن “! ، بينما تثبت الأيام عكس ذلك ، مع الأسف الشديد ، و باتت السّلط العسكرية المتعاقبة تحتكر في كل مرة السلطة و الثروة ، و بات الشعب آخر من يستفيد من ثمار ثرواته التي نهبتها الرأسمالية العالمية و البورجوازية العسكريتارية المحلية المرتبطة معها مصلحيا ، و التي باعت لها باعتبارها ” سلطات الأمر الواقع ” موارد موريتانيا من حديد و أسماك و غيرهما بأبخس الأثمان و أهزلها ، وتكفي مراجعة بسيطة لهذه الاتفاقيات ” المجحفة ” ليدرك المرء إلى أي حد تم نهب هذه الثروات الطائلة دون حياء ، بينما كانت تكفي لإعالة دولة و إغناء شعب يفوق الشعب الموريتاني أضعافا مضاعفة ، ليس ذلك فقط ، بل إنهم ورطوا موريتانيا بمديونية هائلة للمؤسسات الاحتكارية الرأسمالية العالمية بحكم ” معجل الفساد ومضاعف التبذير” الذي يتحكم في المعادلة التي تضبط سلوكهم الدولتي !
و ظهر من تجربة العسكر أنهم لم يفكروا – بحكم حصائد أعمالهم – بالقتال في سبيل بناء الدولة وبناء مقوماتها ، وهذا هو المفترض و الأنسب عليهم ، بل عكسا لذلك تفانوا – في سباق محموم – في سبيل أمجادهم الشخصية و إكثار ممتلكاتهم و اكتناز ما يقدرون عليه من أموال الشعب المسكين المطحون بهذه العينة من ابنائه الجشعين!
أما بناء الدولة و حاضر أجيالها و مستقبلها فكان في آخر اهتماماتهم ، وفي هذا السياق يمكن تذكّر ” الوعود الألفيْنِيَة” (إشارة إلى عام 2000) التي تم الوعد بها أهدافاً وطنية كبرى منذ منتصف الثمانينيات كموعد ” نهائي”! مع قيامة التنمية الشاملة و وضع موريتانيا في ركاب الدول المتقدمة ، حيث ستعيش جنتها الأرضية دون خوف من جوع بل بأمن من خوف ، غير أن ذلك كله ذهب جُفاءً ، و ازدادت المعاناة و كلفة البناء عن ذي قبل أضعافا مضاعفة .
وبعد مؤشرات على أن ” المركب” أوشك على الغرق ، سياسيا و اقتصاديا واجتماعيا و ثقافيا و أمنيا ، انفتح الباب على احتمالات ومشاهد لا تسر أحدا .. وهنا حدثت انعطافة أخيرة ، وكانت آمال التغيير و الاصلاح على كل لسان .. و بذلك نكون قد وصلنا إلى مرحلة جديدة من تحالف النخبة في سبيل الإمساك بدفة الوضع السياسي ، ومما يؤسف له أن “أجيالا ” من النخب المختلفة ركبت الموجة الجديدة و ” بدّلت ” جلدها السياسي ، كما دأبت دائما لتستمر في ” اللعب السياسي ” بمصير و مستقبل إدارة أوضاع البلد حفاظا على امتيازات وطن لا تتصور أن أحدا آخر في القري و الأرياف البعيدة يشاركها دستوريا في مواطنته و الايمان به .
و بعد مرحلة انتقالية و انتخابات جاءت بأحد ” جيل البناء المؤسس” توقع الكثيرون أن يعيد لهم بريق إيمان ذلك الجيل الذي ناضل من أجل ترسيخ مفهوم الدولة و ترويض الشعب على الايمان بها كيفما كان ، غير أن ذلك الأمل سرعان ما تبدد سريعا ، لعوامل مختلفة ليس هذا مجال بسطها و تحليلها ، ورجعنا إلى وضع استثنائي كنا عشنا فيه منذ 1978 ، و تم تنظيم انتخابات عامة أخرى ، وما أكثر انتخاباتنا منذ التأسيس ، و فاز فيها أحد العسكريين ، من الجيل الثالث كما يقول المصنفون !.
إلا أن هذا الجنرال الجديد ربما اختلف عن سابقيه في وعيه و إدراكه بنبض و مشاعر شعبه ذو الثلثي فقير ، و لهذا كان مزهوا و هو يلقب نفسه ب”رئيس الفقراء “!
و لهذا استجاب بسرعة و أرسل ” الجرافات ” لتنظف عاصمتنا الطاهرة من دنس الصهاينة المغتصبين ، و ذلك بعد أن تردد كثيرا ” الرئيس المؤتمن ” في مجرد التعامل بجدية مع الموقف ، رغم وعده بذلك في برنامجه الانتخابي ولم يكن – فيما بدا – في وارد أخذ قرار بهذه الثقة و الإرادة ، ولو استجابة أو مجاملة لمشاعر جمهوره الانتخابي !!
كما أن الرئيس ولد عبد العزيز ، أبان قدرا من الجرأة مع إرادة و حزم في الاستجابة لإرادة الجماهير و احترام الرأي العام و العمل على تعظيم مصلحة و منفعة موريتانيا و إعادة تقييم الثروات الوطنية ، و مراجعة الاتفاقيات لتكون في مصلحة البلد خلافا لما سبق من تجارب منذ أسلافه العسكر ، و صيانتها من التبديد و الفساد الذي ازكمت رائحته النتنة الأنوف منذ أمد طويل ، و صدقية ذلك أن دعمه و مؤازرته سياسيا لا تعطي ، كما كان الحال في السابق دائما ، أية حصانة من التحقيق أو السجن إذا أثبتت المؤشرات وجود شبهات فساد ، وهكذا ينعم بعض وزرائه بالسجن ، و عمله على الوقوف في وجه مجموعات التهريب و المخدرات و التطرف و مطاردتها إلى أوكارها في الصحراء الكبرى و مجاباتها البعيدة و غير ذلك . و ليس من أهداف هذه الكتابة الدفاع أو تجميل مواقف سياسية معينة أو الترويج لها ، بقدر ما الأمر تعبير عن قناعة و محاولة إلى التفكير بصوت عال لإمكان توظيف مؤشرات جديدة في السلوك السياسي للسلطة الحاكمة يمكن أن يؤسس لميلاد ، ربما ، لموريتانيا الأخرى ، موريتانيا الجديدة في أجواء الذكرى الخمسينية التي هي مناسبة بلا شك للتساؤل الجدي و محاولة الإجابة على بعض الاستفسارات من قبيل : أين كنا ؟؟ أين نحن الآن ؟؟ و أين نتجه إلى المستقبل؟؟ ماذا نريد ؟؟ وما هي وسائلنا في ذلك ؟ و من الخطإ أن يجيب عن ذلك حزب سياسي مهما أوتي من القدرة و الكفاءة ، بل نحن جميعا أبناء هذا الوطن و من حقنا أن نسهم ، جميعا ، كل من جانبه في مقاربة الإجابة الشائكة ..
وقد نعلم أن الفرق بيننا و بين الجيل المؤسس أن هذا الأخير ، وجد نفسه في معركة الاستقلال وهو أعزل بلا سلاح ، بينما الجيل الحالي ، جيل موريتانيا الجديدة ، موريتانيا الآن هو جيل أكثر وعيا و إدراكا ، على الأقل ، لحجم المشكلات و المخاطر الجدية التي تهدد البلد ربما ما لم نتحكم في مسارها و مآلاتها و نتشوف حول غيبها الآتي الذي بات العلم معينا على فهم مغلاقاته و إبهاماته ، و هي وضعية مساعدة لتقييم حصاد و حصيلة زرع الخمسين عاما لمعرفة كم حصدنا وماذا حصدنا وهل نؤسس على ما تم ، وأين أصبنا و أين أخطأنا ، و هل نستفيد من أخطائنا ونتوب منها نادمين مع العزم على عدم تكرارها .
ومن المحتم على النخبة السياسية المتسيّدة على المشهد العام للبلد أن تدرك أن مشروعيتها ” بلغة أهل القانون ” تملكها فقط بمقدار تفانيها في خدمة موريتانيا الأعماق كل الأعماق ، موريتانيا القري و آدوابه البعيدة و القريبة . و لا يعقل أنه بعد خمسين حصادا ما زالت مناطق واسعة من البلد خلوا من أي حضور و مظاهر للدولة وغياب كامل مطلق لكل مشاريعها و استثماراتها الكبيرة أو البسيطة .. مناطق عديدة تهنأ في نسيان مطبق حتى موعد استحقاق انتخابي لتباع فيه الوهم و الوعود الخائبة منذ الاستقلال و حتى الآن ، و الحصيلة صفر على الشمال .. هل هذا معقول؟؟
هل من المقبول – حتى اليوم ، وفي عصر الشعوب بحق! – أن تبقي ” نخبة ” أو بالأصح ” قلة قليلة” تحتكر السلطة و الثروة و السلاح لبلد بأكمله ، بالتأكيد لا !
وأكاد أجزم أن هناك إدراكا متصاعدا بأن الوطن للجميع و موريتانيا لجميع أبنائها بمختلف قبائلهم وجهاتهم و أعراقهم ، وقد فشل رهان من تصور يوما ، خاطئا ، أنه يمكن الحلم نيابة عن الناس و تحمل أعباء البناء عنهم لتحمل أعباء المكافأة بدلا منهم ، فهذا بات جزءا من ذاكرة الماضي المباد ، كما علمتنا التجربة ، و لهذا فلا مناص في سبيل ضمان مستقبل هذا البلد من ” مراكمة ” جميع مساهمات ابنائه أينما كانوا و كيفما كانوا ، دون ذلك فلن يتسنى ” تغييب ” المواطنين أبد الدهر ، و تجارب الدول و الأمم تؤيد ذلك ، فالأوطان مسؤولية جماعية مشتركة أو لا تكون ، هذا هو الدرس الخمسيني الذي بات مستوعبا من الموريتانيين بعد قراءتهم لسفر الميلاد الخمسين!. اهــ