إنجاز ثقافي جديد لرجل الأعمال الموريتاني أحمد سالك ولد ابوه
صدرت هذه الأيام أول طبعة دولية مراجعة ومحققة ومصححة من كتاب الحطاب “مواهب الجليل في شرح مختصر خليل”، للإمام أبي عبد الله محمد بن محمد الحطاب (تـ954هـ)، بجهود موريتانية بحتة، قامت بها دار الرضوان للطباعة والنشر لصاحبها رجل الأعمال أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه الذي له يد طولى في نشر العلم وذخائره، وأشرف على تصحيحها ومراجعتها علامة القطر وجهبذه الشيخ محمد سالم بن الشيخ محمد عالي بن عدود تغمده الله برحمته.
ميزات هذه الطبعة الجديدة
وتعتبر هذه الطبعة التي صدرت في سبع مجلدات فاخرة وأنيقة أول طبعة لهذا الكتاب الفريد، الذي لقي من احتفاء العلماء ما لم يلقه أي شرح آخر لمختصر الشيخ خليل، تصدر محققة ومنقحة وموثقة على يد فريق من الباحثين والأعلام في مقدمتهم العالم الفقيه الأستاذ اليدالي ولد الحاج أحمد، ومقروءة ومراجعة ومصححة من قبل الشيخ محمد سالم ولد عدود في 20 شهرا خصص فيها الشيخ 82 مجلسا مطولا لهذا العمل، الذي كانت ثمرته تصحيح ما يقارب اثني عشر ألف خطأ (11846 تحديدا) في النسخ المتداولة، بعد الرجوع إلى مختلف الطبعات الموجودة (طبعات دار السعادة، ومكتبة النجاح، ودار الفكر، ودار الكتب العلمية)، وبعد الرجوع إلى المصادر التي رجع إليها المؤلف، والاعتماد على أربع نسخ من طبعة دار السعادة التي طبعت قبل قرن ونيف، بعناية من السلطان المغربي مولاي عبد الحفيظ، حصل عليها أربعة من كبار شيوخ البلاد وعكفوا عليها استدراكا وتصحيحا، وهم: الشيخ محمد يحيى بن محمد الأمين بن ابوه (تـ 1349هـ)، والشيخ أحمدو بن أحمذي (تـ 1387هـ)، والشيخ محمد عالي بن عدود (تـ1401هـ)، والشيخ أحمدو بن حبيب بن الزائد (تـ1427هـ)، وعلى ست نسخ خطية في مقدمتها نسخة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، ونسخة الشيخ سيديا الكبير، ونسخة الشيخ محمدو بن يامتالي، ونسخة الشيخ محمد الكرامي بن مايابى، ونسخة المعهد الموريتاني للبحث العلمي، ونسخة زاوية الهامل الجزائرية.
وقد تبنت دار الرضوان، كي تخرج هذا الكتاب الموسوعي في أبهى حلة، أعلى مقاييس المنهج العلمي الحديث في التحقيق والتوثيق والتخريج، فأعدت فهارس تفصيلية لآيات القرآن الواردة في الكتاب، وللأحاديث النبوية التي تم تخريجها، وللأعلام، والكتب، والأبيات الشعرية المذكورة في الكتاب، كما أعدت مسارد للفروع والفوائد والتنبيهات التي يتضمنها الكتاب، ووصلت إلى 4377 فرعا وفائدة وتنبيها، إضافة إلى فهرس تفصيلي للموضوعات، وتم نشر الكل في مجلد خاص. وتم نشر متن الشيخ خليل مضبوطا بالشكل، ومحلى بتصحيحات وتعليقات العلامة الشيخ محمد يحيى بن محمد الأمين بن ابوه، وهي تصحيحات وتعليقات جليلة القدر، بالغة الدقة، جمة الفوائد، عمد فيها الشيخ محمد يحيى رحمه الله تعالى إلى تصويب الأخطاء التي كانت شائعة في النسخ المتداولة من مختصر الشيخ خليل، وأثبت في الهامش بعض إشارات شراح المختصر ومتناوليه، وبين بذكاء فذ ما غمض من لغة خليل، وبلغت تعليقاته 782 تعليقا.
وزودت دار الرضوان الكتاب بهوامش وجداول تبين الاستدراكات والتصحيحات والتصويبات التي قامت بها، كما زودته بمقدمة تعرف بالمؤلف تعريف وافيا وبكتابه، ومنهجه، ومذهبه، وتشرح أسلوب وكيفية عمل فريق باحثي دار الرضوان في هذا الكتاب، الذي شهد له الأستاذ عبد الحكيم بلمهدي مدير دار النشر الدولي بأنه “أول شرح من شروح الشيخ خليل ينشر محققا تحقيقا علميا، موثوقا وموثقا، بل أول موسوعة من كتب المالكية تنشر بهذه الطريقة، فلا يوجد في كتب المالكية قديمها وحديثها، كتاب طبع ونشر محققا ومقابلا، على مجموعة من النسخ الخطية، التي ملكها علماء فطاحل صححوا نسخهم، وقرؤوها وأقرأوها الناس، وقيدوا عليها الطرر والحواشي”، فصار بذلك هذا الكتاب تحفة تستحق أن يحتفل بها العالم، ويحتفي بها العلماء، وتحذو حذوها معاهد العلم ومراكز البحث وكبار الجامعات.
قيمة شرح الحطاب العلمية
ولا يمكن أن يقدر مثل هذا الجهد العظيم الذي بذلته دار الرضوان في سبيل تصحيح وإخراج هذا الكتاب الجليل إلا المختصون الذين يعرفون قيمة هذا الكتاب، الذي جمع فيه مؤلفه من خلال شرحه لمختصر الشيخ خليل عصارة ما في أمهات المذهب المالكي: المدونة، والواضحة، والموازية، والعتبية، وخلاصة ما في المختصرات المحررة في المذهب: مختصر ابن عبد الحكم، ومختصر ابن أبي زيد، ومختصر ابن الحاجب، ومختصر ابن عرفة، ومختصر الشيخ خليل، فضلا عن أهم ما تضمنته شروح هذه الأمهات والمختصرات كشروح المدونة، وشروح الرسالة، وشرح المازري لكتاب التلقين، والتوضيح للشيخ خليل في شرح مختصر ابن الحاجب، وشرح هذا المختصر لابن عبد السلام، ولابن هلال، وشرح بهرام على مختصر الشيخ خليل وغيرها، إضافة إلى تفاريق كتب الفتاوى والسجلات والوثائق كالمعيار للونشريسي، والنهاية والتمام في الوثائق والأحكام للمتيطي، ونوازل مازونه للمغيلي المازوني…
فصار شرح الحطاب بهذا موسوعة جامعة للمذهب المالكي، فريدة في طرازها في الفقه الإسلامي، مع ما تحلى به مؤلفها من دقة وتحرير وضبط استيفاء وعزو وتصحيح، حتى قال فيه علامة الغرب الإسلامي أحمدو بابا التنبكتي: “لم يؤلف على خليل مثله في الجمع والتحصيل.. وقد استدرك فيه على خليل وشراحه وابن عرفة وابن الحاجب وغيرهم” (نيل الابتهاج ص338)، وأخذه بالسند إلى مؤلفه، وأجاز فيه العالم أحمد الفزاز بن محمد بن يعقوب (1086هـ) الذي انتشر عنه في بلاد شنقيط.
ومنذ أن ظهر الحطاب أصبح هذا الكتاب عمدة التدريس والقضاء والفتوى في كل بلاد الغرب الإسلامي، يستغني به العلماء ولا يستغنون عنه، ويبذلون كل غال ونفيس في تحصيله، كما حدث مع علامة دهره سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الذي يروي أحمد بن الأمين الشنقيطي في كتابه الوسيط أن “أمير مصر، ولعله محمد علي باشا، أتحفه بفرس من عتاق خيل مصر المعروفة بالكحيلات، فسئل عنها فقال: جعلتها حطابا” (الوسيط، ص37)، ومعناه عنده أنه باعها واشترى بثمنها الحطاب، وأثبت سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في ذيل نسخته ما يلي: “هذا الكتاب.. (اشتراه) عبد الله بن إبراهيم بن الإمام العلوي، أعلاهم الله جميعا آمين، بأربعة وأربعين مثقالا ونصف فصة من محروسة فاس”. ويقدر هذا الثمن الذي دفعه ولد الحاج إبراهيم لاقتناء الحطاب بمقاييس اليوم بـ 6650 دولار أمريكي. وكنا نروي مسلسلا عن والدينا أن العلامة محنض بابه ابن اعبيد كان يقول: “لو اطلعت على الحطاب قبل الشروع في تأليف الميسر ما ألفته” لشدة إعجابه بتحريره واستقصائه، ولم يكن الحطاب قد وصل إلى بلاد القبلة قبل عهد محنض بابه (تـ1277هـ).
ويكفي للوقوف على قيمة هذا الكتاب كثرة رجوع علماء هذه البلاد الشنقيطية التي انتهت إليها رئاسة الفقه في الصحراء والساحل، فرجع إليه المرحوم العلامة محمد سالم ولد عدود في كتابه الفقهي الجامع “التذليل والتذييل للتسهيل والتكميل لفقه سيدي خليل” 3963 مرة في نحو أربع آلاف صفحة، أما الحطاب نفسه فقد عاد خلال تأليفه لكتابه إلى نحو ثلاثة آلاف مرجع بين الأعلام والكتب.
وهكذا ينضم هذا العمل النفيس إلى إنجازات صاحب دار الرضوان خادم العلم والدين أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه تقبل الله أعماله الجليلة التي شملت حتى الآن نشر طبعة محققة من كتابي الكفاف ورحمة ربي مع شرحيهما للعالم الجليل محمد مولود بن أحمد فال (آده)، ونشر كتاب الميسر للعلامة محنض بابه بن اعبيد الديماني، وديوان محمد ولد الطلبه اليعقوبي، بعد أعمال جمع وتحقيق وافيين لهذين الكتابين.
ومهما كتبته عن هذا الشرح والجهد الكبير الذي قيم به لإخراجه بصورة طالما تمناها أهل العلم، وشيوخ المحاظر، وطلبة الفقه، ويرضى عنها المؤلف، ويستفيد منها الناس، فلن يدرك القارئ حقيقة أهمية هذا العمل الجبار، وجودته، وأناقته، ما لم ير بأم عينه، ويتصفح بيده، ويتجول بناظره، في هذه الطبعة الفريدة، نفع الله بها العلم والعلماء وطلابهم، وشيد بها سماء المعرفة، وثبت بها أركان الفقه، فما هي إلا كما قال وكتب البحر الزاخر والطود الشامخ علامة العصر اباه بن عبد الله حينما وصلت إليه: “وبعد فقد ألقي إلي كتاب كريم، وتحفة ثمينة، وطرفة عزيزة، ألا وهي نسخة من مواهب الجليل للشيخ محمد الحطاب مصححة منقاة من غلث النساخ المساخ، وزغل الفهوم، وبادي رأي القراء..” إلى أن يقول: “فكان ظهور هذا الكتاب بشرى عظيمة لطلبة العلم، وفتحا قريبا لدارسي مذهب إمام دار الهجرة ومقلديه. ولو أن ظهور هذا الكتاب أدرك كبار شيوخ هذه البلاد لجعلوا يومه عيدا تقر به عين الفقيه منهم، ويثلج به صدر الدارس، وتطمئن له نفس المتبصر، فجزى الله الناشر والمحقق أحسن الجزاء، فما هو إلا ثمرة من غرس الدوحة اليعقوبية الموسوية، وما هو بأول بركات هذا البيت على هذا المذهب وطلبته، ولا جعله الله آخرها“.