نواكشوط ـ ابراهيم ولد المصطفى
عندما كانت الشمس تدنو رويدا رويدا للمغيب..يتحلق رجال من مختلف الأعمار حول رقعة ظامت قبالة سوق ولد الحسن في حي بوحديده..هنا جلسوا عصرا ليخوضوا معارك بلا سلاح ، جنودها عيدان وأحجار متناثرة تقارب الخمسة عشر هي كل ما بقي في الرقعة التي تسع ثمانين “مقاتلا”.
ترسل الشمس الآئلة للغروب أشعة وسطا بين الصفرة والاحمرار تضفي رونقا خاصا على وجوه المتبارين..تتعالي الأصوات، “العب هناك..كان يجب أن تضع عودك هنا.. دعه وشأنه ..هو من يلعب”، صورة تتكرر في زوايا متعددة من مختلف أحياء نواكشوط..بل إنه توجد مساحات أصبحت خاصة بهذه اللعبة الشعبية.
الكبار وحدهم يدخنون أثناء اللعب..وهذا ما قد يساعدهم على التفكير في خطوات ذات مردودية، أما اللاعبون الشباب فيلزمهم العرف الاجتماعي بخوض مباريات كاملة غير محددة الوقت دون تدخين..فالانسحاب لبرهة بدون سبب قاهر غير مقبول، والتدخين في وجوه رجال مسنين ـ حتى لو يكونوا معارف ـ مرفوض.
عكس الشطرنج لا يوجد في “ظامت” حكم بين اللاعبين، وهذا ما يولد خصومات لا تنتهي إلا لتبدأ ، كلا المتباريين الاثنين يستحلف المشجعين ليظفر منهم بشهادة تحسم النزاع لصالحه..الروح الرياضية مطلوبة في مثل هذه الأوقات، وغائبة عن الكثيرين.
رفع أذان المغرب فنفض اللاعبون أيديهم إيذانا بالنهاية .. وانفض المجلس ..رغم أن النتيجة لم تحسم لصالح أي من اللاعبين، لكن الليل عدو لـ” ظامت” فهي لعبة نهارية.. في الطريق إلى المسجد كان الجدل مستمرا حول الجولة المثيرة بين لاعبين متمرسين.
في ساحات عمومية كثيرة بالعاصمة نواكشوط يتجمع رجال من مختلف الأعمار يتفرقون مع الغروب على نية الاجتماع في اليوم المقبل.
في ظامت أيضا كما في الحرب ثارات.. فإذا حدث أن أسدل الظلام ستوره، وقد هزم أحد اللاعبين الآخر فإن ذلك لا يعني النهاية والاستسلام .. فلربما حملت شمس الغد ثأرا يثلج الصدر، أما بالنسبة للجولة التي لم تحسم فإن اللاعبين في بعض الأحيان يتركون الرقعة على حالتها ليبدءوا في الغد من حيث انتهوا .. وحينما تصل اللعبة مرحلة متقدمة يصعب فيها على أي من المتنافسين النيل من الآخر فإنهما يوقعان “سلام شجعان” وتنتهي الجولة بلا رابح أو خاسر، لكن التحدي يدفعهما دائما إلى إعادة الكرة في جولة أخرى.
“ظامت” مثل الشطرنج لا مكان فيها للتراجع أمام اللاعب طريق واحد هو المضي قدما ..ولا شيء غير المضي قدما، حتى التحرف جنبا لقتال غير مسموح به إلا عندما تكون النتيجة مضمونة.
يعمل اللاعبون على حماية خطوطهم الخلفية، فوصول أحد العيدان الأربعين إلى الخط الخلفي للخصم خسارة شبه مؤكدة يصعب تلافيها، إنه يكسب العود أو الحجر المتسلل “قدرات خارقة” تعفيه من صرامة قوانين اللعبة لتجعله مقاتلا فوق القانون يسمح له بالتنقل بحرية على طول وعرض ساحة المعركة.
تتقاطع ظامت اللعبة الرجالية التي لا مكان فيها للنساء مع الشطرنج في الكثير من قوانينها ، وتختلف عنها في عدة نواحي ، ففي الشطرنج مثلا النقلة الأولى تكون لصاحب القطع البيضاء ، وفي “ظامت” نقلة البداية لصاحب العيدان ، وفي ظامت لاملوك ولا فيلة ولا وزراء ولا أحصنة.. أربعون عودا وأربعون حجرا.. لا أهمية لأي منها أكثر من الآخر.. فهي سواسية كأسنان المشط.. ما يكسب العود قيمة خاصة هو “سعيه” ، فحين يصبح “ظائما” ـ ملكا بلغة الشطرنج ـ تجب فديته بآخر أقل شأنا عندما يتعرض للخطر.
للعبة “ظامت” أشكال مصغرة تناسب وقت وتفكير الصغار واليافعين، تضم 24 مقاتلا فقط ..لكنها لا تحظى بالزخم الذي تحظى به اللعبة الأم.