يتعين – عليّ قبل الاستطراد في الحديث- أن أشيح الغموض عن أمور كثيرة تتعلق بمفهوم ودلالة الإصلاح بالنسبة لأطراف اللعبة السياسية الوطنية؛ فتعريف الإصلاح في معجم العلوم السياسية يعني مصطلحا واسع الانتشار يطلق علي “التحسينات أو إلغاء سوء التصرف والعيوب”. لكن هل هذه هي دلالة الإصلاح عندنا. بمعني: هل أن من التزم بهذا التعريف قد قام بالإصلاح على أكمل وجه ؟ وهل هذا هو الإصلاح الذي يعنيه محمد ولد عبد العزيز أم لا ؟ وهل هذا التعريف هو مرجعية المعارضة في انتقادها وتقييمها لخطوات الإصلاح في البلد ؟ ومن عليه في نهاية المطاف أن يرسم أيديولوجيا الإصلاح ؟ أهو الطرف الذي يوجد في السلطة، أم هي الأطراف كلها؟ وهل هناك من قام بتقديم اقتراحات وحدد مفاهيم ؟ أم هل أن العملية السياسية والتفاعل بين أطراف اللعبة يقوم خارج هذا السياق وهذا الطرح ، وأن الصراع السياسي تطور قبل الدخول في الموضوع ؟.. إنها إشكالات يرد طرحها بإلحاح أمام التعاطي مع قضية الإصلاح في البلد.
ليس هناك مفر من أن يعترضنا، في أول وهلة وأثناء التطرق للإصلاح، تناقض صارخ بشأن مفهوم ودلالة الإصلاح بالنسبة للأطراف السياسية . ففي خطاب المعارضة ـ أي معارضة: يمين، يسار ـ فإن المشاكل التي طرحت منذ تأسيس الدولة من أوجاع القرن الماضي لا تزال مطروحة: مشكلة الوحدة الوطنية، مشكل إصلاح التعليم، القبلية، العبودية، محو الأمية، تكافؤ الفرص، المساواة، وغيرها، وكأن الجهود (خلال الخمسين سنة الماضية) عبارة عن جهود غير منسقة وليست في صميم تأهيل المجتمع للوصول إلى مشارف التطور بشكل سليم ومستديم. ولهذا يرتبط لديهم مفهوم الإصلاح بإعادة البناء، وليس بإلغاء العيوب. بينما تأتي محصلة تفكير النظام (أي نظام: عسكري، مدني) في كون الرهان علي الإصلاح هو الوصول، علي أي مستوى، إلي إلغاء سوء التصرف أو إصلاح العيوب لا غير . وهكذا يبدأ الخلاف من البداية وبشكل دائم . ومن هنا أيضا نفهم مستوى ومدى التناقض في التعاطي السياسي مع مجريات الأمور؛ فكل ما يعرضه النظام هو دون الحد المطلوب، وكل ما يصدر عن المعارضة هو تطرف وغير مقبول .
إذن نحن أمام جدلية خطيرة وصارمة. هذه الجدلية هي المحرك الأساسي للعملية السياسية في البلد . طاقة هائلة من الخلاف ، وضد التوافق: سواء الاتفاق علي الأهداف التي يتعين السعي لتحقيقها ، أو الاتفاق علي الإجراءات التي يجب إتباعها . ولهذا أيضا أصبح في غير المقدور نزع فتيل التطرف بين أطراف اللعبة، بل صار التطرف رمزا لصدقية الالتزام السياسي. وهكذا نلاحظ غياب أي أساس للتفاهم في الخطاب، بل أن خطابات قادة الرأي عارية في الغالب ومثخنة بالنعوت، وكأننا نحفظ مزاج الحملة المتوتر من أن يصيبه أي فتور، وبهدف وحيد هو تدمير شخصية الخصم خاصة إن كان رئيسا. وليس الهدف تحقيق اتفاق حول مجموعة القيم التي تحفظ أمن وسلامة المجتمع والتي هي جزء لا يتجزأ من العقد الاجتماعي المتصلة بالهوية الثقافية وبالاقتصاد إنتاجا وتوزيعا، وبالحرية وسيادة القانون. ليست هنالك خلاصة أخرى يمكن الركون إليها سوى طرح التساؤل الوجيه: هل هناك فعلا دور للتعقل؟ بمعنى استخدام الملكات العقلية . أو كما قال الأستاذ محمدن ولد إشدو: “هل هناك تعامل صادق مع إرادة التغيير التي تتصدر جدول أعمال المرحلة ” بعيدا عن الحسابات الصغيرة. لسنا متيقنين من أن أحدا انشغل بالتعمق في مقتضيات المرحلة خاصة من خلال المشاركة في رسم السياسية الذي هو لب العملية السياسية والذي يشمل كل ما يجري فيما يتصل بقضية أو مجموعة قضايا قبل أن تصل إلي التشريع. ولا يقتصر ذلك علي دور الحكومة وحدها بل أيضا من جهة المعارضة التي قد تحاول التعديل والتقويم والتحويل في المراحل الأولي من رسم السياسة وتحديد الأهداف بشكل عام. كما قال المناضل الوطني الكبير مسعود ولد بلخير أمام البرلمان “…. يتطلب منا تدارس الأوضاع بجدية كي يتجسد الحوار المنشود في آراء بناءة تترجمها الحكومة في برامج واقعية أكثر انسجاما وتجاوبا مع حاجيات وتطلعات مواطنينا “، أليس الوضع مناسبا لمثل ذلك؟ ألم تخرج الدولة كتوجه عام وكإرادة سياسية من فلك الفساد؟: بلي ،فقد خفت حدة استخفاف الناس بالمجال العمومي وبتبديد ممتلكات الدولة. وقد تم تقليص مراكز النفوذ في الدولة: أي عدم وجود مجموعات تملك نفوذا خاصا في القصر وتم تحجيم الأشخاص أصحاب النفوذ الخفي (رموز السلطة) وتم القضاء على “حكومات الظل”، وكذلك عادت المحسوبية خببا على أدراجها، كما أن هناك متابعة دقيقة للصرف العمومي، وحصار نفسي للمفسدين أو المفرطين ملأه الخوف من العقاب.. هناك إرباك لنظم الفساد في الدولة، وهناك إرادة معلنة للإصلاح. فهل المراد هو ألمعية الفكر أو شرعية الأهداف؟؟ إنه تحد لأنماط صميمية من الفساد،لم يتلق للأسف الدعم والحماس اللازمين من النخبة وبقي من دون نجوم في الصحافة أو في المجتمع المدني والسياسي ، وظل بمجهود فردي تتكالب عليه قوى الفساد وتدعمه شيعة أو موالاة يداعبها النعاس. لن يكون من السهل في هذا المقام الدفاع أمام التاريخ عن إدارة الظهر للإصلاح، خاصة بالنسبة للذين قدموا تضحيات طوال الوقت وظلوا يدفعون الثمن. إن الدعم الوحيد البناء في هذه المرحلة هو وحدة الصف خاصة بين المنافحين عن الإصلاح المستفيدين من سيادته المقتنعين بضرورته، وليس المتخاذلين الذين يحملون أسفارا. إن على المرء أن يكون مسرورا في بعض الحالات بالحل الذي يعثر عليه خاصة إذا كان يلبي جزء من الطموح، ففي فترة معاوية الأخيرة – حينما كان الوضع متأزما ولم يكن هناك مجال للحديث عن الإصلاح- كان قرار المساومة حصيفا ورزينا، وكان يهدف ليس فقط للحصول على حد أدنى من التفاهم، بل من أجل إعلان نوايا تسمح بكسر الجليد. ربما ـ مرة أخرى ـ على المرء أن يقدم تنازلات في بعض المواضع ليحول دون وقوع الأسوأ؛ فعندما تخور قوى الرئيس محمد ولد عبد العزيز فما هو الثمن المحتمل للتراجع عن قرار الإصلاح ، بغض النظر عن الصراع الحالي الحار مع الوضع في ضوء الانتقادات الموجهة من الخصوم لعمق الإصلاح ودرجة اتساعه وحدوده الزمنية، وضعف الإدارة الحكومية، وعدم وضوح الرؤية بالنسبة للأغلبية، وانعدام سياسة اتصال ناجعة، وعدم فاعلية الأعوان، وغيرها؟ ألا تـُعد حتى مع هذه ” الشوائب” أضرار التراجع وخيمة؟ أي عندما ينتقل الوضع من حالة قابلة للإصلاح والتوكيد والتعميق إلي وضع لا يصلح فيه إلا خطاب واحد وهو قلب الأمور رأسا علي عقب، ولن أنكر علي أحد نواياه النبيلة، لكن عدم المشاركة في رسم سياسية الإصلاح لا يمكن أن يبرر إلا بحجج منافية للمنطق السليم. إننا – للأسف- في وضع من صدام النخبة السياسية المشحون بالمشاعر لا صدام النخبة الفكرية المفعم بالتعقل وبالطرح الذي مصدره التأمل والتفكير. ولهذا لم يتم حساب المسافة بين نقطتي البداية و النهاية والوسائل والآليات والظروف والشروط التي تحيط بالقرار السياسي، والرهانات والإكراهات التي تفرض هي الأخرى نفسها، وأوجاع وآلام التنشئة . لكن هل تحقق الشرط الرئيسي أم لا؟ أي هل أن كل القوي الأساسية في الدولة: جهاز الدولة، طبقة النخبة، وأجهزة السلطة، مهتمة وتشعر بالتوجه الجديد نحو الإصلاح أم لا ؟ هل هناك إرادة لتعميق ذلك أم لا ؟ وهل هناك خطاب رسمي للدولة أكثر ذيوعا من خطاب الإصلاح؟ هل هناك تفاعل في إدارات الدولة مع ذلك أم لا ؟وهل تنقص قرارات الإصلاح التصميم أو الشجاعة اللازمين؟ هنا تنتهي نقاط التشابه بين القولي والعملي ، وهكذا تم طرح أسس لمنطلقات حقيقية للإصلاح تاركة فرصة كبيرة لمشاركة النخبة . إن دور النخبة، خاصة المعارضة، في المشاركة في رسم السياسية، يأتي قبل حساب النتائج: أي أن المهمة الأولي هي مد يد المساعدة لدعم استقرار الخطاب وتحويله إلي رؤى، إلي سياسات، إلي إستراتيجية محددة قائمة بذاتها، ومن ثم نصل مرحلة التقييم والنقد والفضح والاعتراض والتقويم: إصلاح الإعوجاجات . إن هذا القرار الصميمي لا يزال في المهد ومحاط بالكثير من المثالب والأخطاء ويثير الكثير من مشاعر الكراهية ولا ينسجم مع عقليات ” نخبة المخزن”. ومع ذلك هو قرار وطني شجاع ينسجم مع مطلب الشعب والدولة منذ التأسيس وحتى اليوم.