إذا هي مجمل المهارات التي من شأنها أن يتنقل المال من أصحاب الفائض المالي او المدخرين الي أصحاب الخصاص المالي، وهذا التنقل قد يكون مباشرة في سوق الأوراق المالية أو بتدخل وسيط مالي.
وهذه الصناعة تتركز على أعمدة هيكلية ومؤسسية تتمثل في: البنوك، صناديق الادخار على غرار ما في ماليزيا مثلا، شركات التأمين، الصناديق الاستثمارية، وسوق الأوراق المالية.
بما ان المقام هنا هو تسليط الضوء للمهتمين على وضعية المالية الإسلامية من القانون ومكانتها داخل القانون البنكي للبنك المركزي الموريتاني بإيجاز مبرزا مكامن النقص ومحفزات النجاح وسنركز هنا على القطاع المصرفي، وسنحاول في هذا العرض التعرض لهذه الإشكالية بعنوانين
- المعطيات المحفزة لنجاح المالية الإسلامية في موريتانيا
- مكامن النقص في الإطار القانوني
وقد سبق هذا المقال مقال سابق منذ أشهر كان بمناسبة اعلان السلطات عن نيتها انشاء سوق للأوراق المالية 2012 حينها، وكان عنوان المقال ماذا نحتاج لإنشاء سوق للأوراق المالية وهي ملخص دراسة شاركه بها الباحث في عدة ندوات دولية وتم نشرها في مجلات المختصة بالإنجليزية.
أولا البنك بتعريفه يقدم عادة نوعين من الخدمات، يتمثل النوع الأول في خدمة الائتمان ويتم عادة عن طريق منح اعتمادات للزبون مقابل فائدة محددة
اما الفصيل الثاني من الخدمات فهي عبارة عن خدمات يسديها المصرف مقابل عمولات ورسوم يتحملها الزبون.
النوع الثاني لا يثير أي اشكال لدي المشرع الإسلامي من حيث المبدأ، اما النوع الأول القائم على الائتمان فهو مرود المخيط ومربط الفرس للاقتصادي الإسلامي لاعتماده على مبدأ القرض بالفائدة وامام هذا الاشكال ولد ما يسمي اليوم البنك الإسلامي او التشاركي
وفي موريتانيا كان النظام المالي تابعا لدول غرب افريقيا BIAO الذي أنشئ 1952، وفي 1967 ظهرت الشركة الموريتانية للبنك SMB وتزامن انشاء البنك المركزي سنة 1973 حين انسحب البلد من BIAO انشاء البنك الموريتاني لتنمية BMD، اما على المستوي الخدمات المالية الإسلامية فكان بنك البركة هو اول بنك إسلامي في البلد 1985 ولم تلبث البنوك الأخرى حتى فتحت شبابيك للمعاملات الإسلامية مما يجرنا الي المحور الأول من هذا العرض
- المعطيات المحفزة لنجاح المالية الإسلامية في موريتانيا
من اهم محفزات نجاح أي تجربة بنك إسلامي هو تقبل المجتمع وترحيبه بكل ما له علاقة بالشريعة الإسلامية وبحثه عن موافقة بين ضرورة العصر المقتضية للتعامل مع البنوك وبين الواجب الديني المانع للربا، مع ان بعض صيغ هذه المعاملات لاتزال موضع نقاش وخلاف في مدي تطابقها الشرعي الي ان الدفعة بضرورة الشبه خير من التمادي والمجاهرة بالمعصية.
ومذهب الامام مالك المعمول به في موريتانيا يستقري بعض الشبهة في عمليات الإيداع مقارنة مع عمليات الإقراض
بالنسبة للإيداع فينقسم الي قسمين ودائع جارية يمكن لأصحابها استرجاعها في أي وقت وودائع لأجل التي لا يردها المصرف من حيث الأصل الي بعد أجل ويستحق فيها المودع فائدة تزيد بنقطة واحدة على سندات الخزينة في اخر إصداراتها، وإذا زاد مبلغ الإيداع عن خمسة ملايين أوقية يتم تحديد النسبة بتراضي بين البنك والعميل وميزة هذه الودائع على انها مضمونة من المصرف وهذه الميزة هي التي جعلت البنوك الإسلامية تعزف عنها لما فيها من الربا الصريح، وتقدم حسابات الاستثمارية والمضاربة كبديل وتعرف بالمصطلح الفقهي بالقراض.
ومن المعلوم ان المضاربة من الإيجارات التي من ضوابطها انها معلومة الاجر والعمل لكن مشروعيتها جاءت على خلاف القياس لأنها استئجار لأمر مجهول، بل بأجر معدوم ولعمل معدوم ومستثناة لحاجة الناس اليها في تجارتهم وان كان من المذاهب من يري انها من المشاركات ويترتب عليها ما يترتب على المشاركات
كما انها أيضا يتم اعتمادها في اصدار الصكوك الإسلامية فمن خلالها يمتلك المودعون حصص مشاعة من رأس المال المضارب به ويمكن ان يبيعوها في أي وقت شاءوا.
اما عمليات الإقراض فمن أبرزها المرابحة وهي كما عرفها الدسوقي بانها بيع سلعة يثمن شرائها وزيادة ربح معلوم يتفق عليه، ولا نخوض في تفاصيلها من اجل الاختصار ولأنها صارت من المعلوم البين المشًاع بين الناس.
- المحفز القانوني للمعاملات الإسلامية
على مستوي الدستور لا يوجد نص قانوني أكثر صراحة منه فيه، حيث ينص في مادته الاولي على انها دولة إسلامية وأن الإسلام هون دين الشعب والدولة وكما يشترط في الرئيس ان يكون مسلما. كذلك إعلانات الدساتير السابقة جميعها، فقد كان دستور 1991ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد لتشريع وكذلك دستور 1984، وقد غض الطرف المشرع عنها في التعديلات اللاحقة خصوصا 2006 حين أهمل الإحالة المرجعية الشرعية في التشريع. على مستوي قانون المدني فبمقتضي الامر القانوني رقم 126_89 وعدل بالقانون رقم 2001_31 الصادر بتاريخ 7 فبراير 2001وهو مستقصي في اغلبه من القانون الفرنسي, فقد جاء بدباجة إسلامية بعد تعرضه لجملة من التعديلات اضفت عليه الصبغة الإسلامية المالكية السنية فقد نص في المادة 1179 علي انه يرجع الي المذهب المالكي في كل ما لم ينص عليه في هذا الامر القانوني ,وهو ما مقتضاه أن هذا المذهب هو مصدر الاحتياطي الأول وما نص عليه القانون لا يحتاج الرجوع فيه الي المذهب ونجده كلما عرف عقدا أشترط عدم الوقوع في الربا والغرر والجهالة (مواد 227,335,920 من قانون الالتزامات والعقود). كما شدد في مسألة الربا في القرض كما نصت المادة 814 من قانون الالتزامات والعقود على ان اشتراط الفائدة بين الأفراد باطل مبطل للعقد الذي يتضمنه سواء جاء صريحا او اتخذ شكل هدية او أي نفع أخر للمقرض او لأي شخص اخر غيره يتخذه وسيطا…انتهي الاستدلال.
رغم ان هذا النص لا يمنع الا التعاملات الربوية بين الأشخاص الطبيعيين وبين الأشخاص المعنويين فانه يمثل بارقة أمل بما أن المشرع يحاول إضفاء الشرعية علي عقد القرض مما يفتح الباب أمام المعاملات التشاركية البديلة.
على مستوي القانون التجاري الذي صدر في بداية 2000 وهو أضعفها إحالة الي الشريعة ومستقي في اغلبه من المدونة التجارية الفرنسية ومع ذلك اتخذها مصدر احتياطيا كما نصت المادة 1465 على انه يرجع الي الاحكام الشرعية في كل مالم ينص عليه في هذه المدونة لكن هذه المعطيات تتعارض مع ما وردة في نفس المدونة من مادتها الثانية التي تنص على ان المسائل التجارية يفصل فيها بمقتضي قوانين واعراف التجارة، أو بمقتضي القانون المدني في الحالات التي لا تتعارض فيها قواعده مع قواعد القانون التجاري.
ويقع الصدام من وجه ان المشرع جعل القانون المدني غير المخالف للقانون التجاري المصدر الاحتياطي الأول, لتصيرة الشريعة الإسلامية في المرتبة الثانية , بالإضافة الي انه لم يراعي الاحكام الشرعية فهو يتحدث في بعض مواده عن الربا دون حرج (المادة 1324,1325) ربما قد توجد صعوبة في إضفاء الطابع الإسلامي علي الاحكام التجارية بسبب ارتباطها الازلي بالفائدة ولم يحيل الي الشريعة الإسلامية ومذهب الامام مالك كما فعل القانون المدني وبل فتح باب الاجتهاد للقاضي ليختار المذهب المناسب وهو ما قد يفتح الباب لبعض المعاملات المنبوذة في مذهبنا مثل بيع العينة وغيرها.
لكن ما يحفز المعاملات الإسلامية هو ميل المشرع الي أسلمة القاعدة القانونية مما يفتح شهية البنوك للمعاملات الإسلامية ويعزز فرصها واندماجها ضمن المنظومة القانونية
لكن تبقي هناك جملة من العوائق امام هذا الاندماج داخل المنظومة القانونية، هذه العوائق نستعرضها بالمختصر فيما يلي:
- مكامن النقص في الإطار القانوني
على مستوي القانون البنكي فمن المعلوم ان مهنة الصيرفة تخضع لقانون صارم ورقابة من البنك المركزي، فان هذا القانون لا يجتمل على أي وصف لخصوصية البنوك الإسلامية، والعجيب ان موريتانيا كانت سباقة الي التجربة البنكية الإسلامية فبنك البركة هو النموذج الثاني من نوعه في المغرب العربي بعد بنك الزيتونة التونسي.
ومع ان هذا القانون تعرض لثلاث تعديلات بقي يتجاهل هذا نوع من المعاملات بشكل كلي, ففي 1991 صدر الامر القانوني 442_81 الصادر بتاريخ 1991_12_30 فلم يبالي بهذه التجربة الجديدة ولم يعطيها خصوصيتها وفي 1995 صدر الامر القانوني رقم 011_95 دون ان يشير الي المصارف الإسلامية بل ألغي الاحكام التي كانت تشير الي مبدأ المشاركة في الربح والخسارة وهي ليست خاصية للبنوك الإسلامية بل لكل مؤسسة مالية والتي يعرفها هذا الامر القانوني في مادته الثانية علي انها كل شخص معنوي يقوم علي سبيل الاختصاص او الاعتياد علي واحدة من هذه العمليات
- تسلم أموال عمومية مهما كانت المدة او الشكل
- توزيع اعتمادات على اشكالها
- وضع كافة وسائل التسديد او التسيير تحت تصرف العملاء
ويتيح هذا التوسع لإدماج الأموال التي تتلقاها المصارف الإسلامية فهي ترد على شكل ودائع وعلى شكل رأس مال للمضاربة، والمصرف له حق التصرف فيها، ولم يشترط القانون ارجاعها بزيادة فائدة لكنه اشترط ارجاعها وضمانها، وهو ما يعيق عملية المضاربة ضمن عملية التسليم لان المصرف الإسلامي لا يشترط ارجاعها امام المخاطر. اما عملية الاعتماد فتطلق على كل عمل تلتزم بمقتضاه مؤسسة قرض بوضع اعتمادات مقابل تعويض تحت تصرف شخص على ان يتكفل هذا الأخير بتأديته او تأخذ المؤسسة في مصلحة شخص المذكور تعهدا بتوقيع من قبيل اعتماد مستندا او ضمانه او كفالة او غير ذلك من العمليات (المادة 4 من الامر القانوني 020_2007) ويبدو ملائما للخدمات التي تقدمها المصارف الإسلامية لولا عبارة مقابل تعويض التي تعني الفائدة وهي غير متجانسة عند مراجعة النسخة الفرنسية a titre onereux وهي تعني فقط ان العملية ليست من باب التبرعات.
- منع القانون للنشاط التجاري او الصناعي
يضع القانون حاجزا منيعا امام البنوك الإسلامية في عملياتها التجارية او الصناعية التي يقدمها كبديل للتعاملات الربوية فقد نصت المادة 20 من الامر القانوني رقم 20-2007 انه لا يجوز للمؤسسات القرض ان تقوم لحسابها أو حساب الغير بنشاط زراعي أو صناعي أو تجاري أو عقاري الا إذا كانت ضرورية او مرتبطة بتحصيل ديونها. فلسفة هذه المادة ترتكز على مبدأ حماية المدخرين من الاستغلال ومبدأ التخصص الذي يقيد المصرف في مجاله وهو تجارة المال والوساطة، والنقد ليس سلعة في حد ذاتها بحسب فلسفة وطرح المالية الإسلامية فكيف يلتقيان؟
- غياب التكييف الوضعي
مع ما رأينا من تجاهل في القانون البنكي لخصوصية هذه البنوك فان عملياتها تجد أيضا صعوبة في الاندماج ضمن المنظومة القانونية الموريتانية على مستوي القانون الخاص وقانون الضريبي على مستوي القانون الخاص فانه من المعلوم ان من أبرز عقود وتقنيات البنوك الإسلامية هو عقدي المضاربة والمرابحة ولا نجد لهما في هذه المنظومة القانونية أي تنظيم، وبالتالي هي عقود غير مساماة تمتاز بحرية تعاقدية المؤطرة للقواعد العامة للعقد وبالتالي يمكن لطرفي العقد ان يتعاقدا على ما اتفقا عليه دون الاصطدام بالقواعد المتعلقة بالنظام العام، اما ماسكت عنه الطرفان فيتدخل القانون لتنظيمه. غياب قضاة ومحاكم خاصة ايضا من اهم العوائق امام هذه البنوك خاصة عندما لا تفيد بنود عقد في توضيح المراكز القانونية للطرفين وفي هذه الحالة يتم اللجوء الي مراكز الاحتياط. فاذا كان النزاع ذا طابع مدني فان المصدر الاحتياطي الذي يرجع اليه هو المذهب المالكي وهو المذهب الذي لا يجيز بعض صيغ التي دأبت بعض المصارف على اعتمادها مراعية فسحة شرعية عند المذاهب الأخرى
اما إذا كان النزاع تجاري فان القاضي لن يجد ما يشفي الغليل له في المدونة التجارية لخلوها من تنظيم لهذا النوع من العقود، ولن يستطيع الرجوع للعرف لعدم نضوج هذه التجربة ولن يبقي امامه سوي الشريعة الإسلامية طبقا للمادة 1464 من مدونة التجارة وهي الإحالة التي تتيح للقاضي قدرا من المرونة.
- القانون الضريبي
لا تمثل البنوك الإسلامية أي خصوصية في حد ذاتها امام القانون الضريبي فهي مثل غيرها من البنوك الخاضعة لضريبة الأرباح التجارية والصناعية، لكن عملياتها لم يتم تمييزها بعد ولذلك يتوقف تحديد نظامها الضريبي على تحديد طبيعتها. هل هي عقود ناقلة للملكية في العقود التي يتوسط البنك فيها بالبضائع لتجنب الربا، وبالتالي يترتب عليها ما يترتب على مثلها؟ ام هي عقود خدمات مالية ويجب التعامل معها على هذا الأساس؟ وتعفي من ضريبة القيمة المضافة؟ فعند الرجوع الي القانون الضريبي لا نجده يمنح أي خصوصية للمعاملات الإسلامية، ومع ان نسبة القيمة المضافة لا تختلف عن نسبة الخدمة المالية (14 بالمئة) وبالتالي البنوك لا تهتم كثيرا لهذه الإشكالية، ويودون لو طبقت على العملية التي تربطهم مع العميل باستثناء المورد للان ذلك يمكنهم من اقتطاع المبالغ التي دفعوها من قبل من نفس الضريبة، لكن عدم التمييز والتبويب لخاصية المالية الإسلامية يجهض الخدمات الإسلامية من الأساس.
ونستخلص مما سبق أن المشرع الموريتاني عزف عن الاعتراف بالبنوك الإسلامية وضرب الصفحة عرضا عن العقود وتقنياتها ووضع نصوص وحواجز وأرهقها ضريبيا.
لكن السلطات الحالية عبرت في أكثر من مناسبة وبمسطرة من الإجراءات التمهيدية عن جديتها أن تكون المنظومة الاقتصادية للبلد صلبة قانونيا واقتصاديا وفتحت الباب امام الكثير من البنوك وأكبر دليل هو عكوف البنك المركزي حاليا على إعادة النظر في المنظومة بأكملها بحيث يقع الانسجام داخل الإطار القانوني ليصل الي التماسك والواقعية المنشودة.
زين العابدين ولد الحضرامي
باحث اقتصادي
[email protected]