قبل سنوات حضرت نقاشا، على مائدة سفيرنا باحدى العواصم العربية، حول مسالة اللغة العربية في موريتانيا، تشعبت فيه الاراء طرائق قددا، واثار السفير طرحا، بدا لي غريبا في وقتها، بالنظر لمكانة الرجل، واعتباره بطريقة او باخرى – او على الاقل اكثر مني ومن باقي الحاضرين للنقاش- يمثل وجهة النظر الرسمية، ولكونه من بين اكبر المتفرنسين في البلد، ولعدم تعودي شخصيا ان اسمع مواقف صريحة وجازمة من مسؤولينا في اغلب القضايا ان لم اقل كلها.
المهم ان الرجل، قال بوضوح، ان الطريقة الوحيدة لحل مسالة اللغة في البلاد، هي ان نخير المسؤولين والمنتخبين والاطر الكبار، الذين يتولون مسؤوليات عامة من المجموعة الزنجية، ان يلقوا خطبهم الرسمية في البرلمان، وفي الانشطة الحكومية، باللغة العربية او بلغاتهم الام، يقصد طبعا البولارية والصوننكية و الولفية.
واضاف بنبرة حاسمة، لا تترك مجالا لشك بشان ما يقصد ، اما الفرنسية، فلامحل لها في برلمان ولا في حكومة بلد لا يتخذها لغة رسمية.
لم تكن قضية اللغة مطروحة وقتها، او على الاقل بالالحاح الذي تطرق به ابوابنا هذه الايام، ولكن الفكرة بقيت في ذهني، اقلبها يمينا وشمالا، حتى عاد الموضوع، ليحتل صدارة الاهتمام، فيما يصلني منذ بعض الوقت، من الاصداء من البلاد.
واعتقد اليوم بعد مرور سنوات على ذلك النقاش، ان كلام السفير كان فيه جانب من الصواب – ولو انني انطلاقا من تكويني الشخصي و انتمائي المهني – لا احبذ التقييد – على الاقل في كثير من المسائل.
ولكنني اجد في نفسي ميلا، الى الاخذ ببعض ماقاله الرجل، خاصة ما يساهم منه في تطوير وترسيم وتوسيع استخدام لغاتنا الوطنية، التي لم نفعل جميعا بلا استثناء عن قصد او غير قصد، الشيئ الكثير لتطويرها وتنميتها، سوى اننا نردد انها تحتاج الى العناية بها، دون ان نتجاوز مستوى اجترار بعض العموميات، الموجهة للاستهلاك الاني، ان لم اقل التوظيف قصير المدى.
فمن غير المعقول ان تكون لدينا لغات، نسميها كذلك، ولكنها لاتؤدي لنا وظيفة اللغة، التي اول عناصرها واهمها التواصل. واتصور ان ترسيم هذه اللغات، اقصر طرقه، ان يتم استخدامها على نطاق واسع، في الخطب وفي المناسبات الرسمية. ولتعذروني فساسوق قصة تعضد فكرتي بهذا الصدد.
اذكر انني كنت اتابع احدى جلسات البرلمان عبر التلفزيون، مع احد الاصدقاء الاجانب من بلد بعيد، واثار استغرابه ان بعض النواب، كانوا يتحدثون بالعربية، اوعلى الاصح باللهجة الحسانية، واخرون كانوا يتكلمون باللغة الفرنسية
ولما شرحت له ان اغلب من يتحدثون بالفرنسية، هم من الموريتانيين غير الناطقين بالعربية، سالني عن اللغة التي يتكلمونها في بيوتهم وبين ابنائهم وزوجاتهم، فاجبته بان لهم لهجات متعددة، بحسب المجموعات القومية، التي ينتمون اليها، فقال باستغراب اذا لماذا لايتحدثون بها في البرلمان بدل اللغة الفرنسية.
واعتقد جازما، انني لم اجد جوابا مقنعا، يقنعني انا قبل ان يقنع محدثي، ولااعتقد ان ايا منكم يملك جوابا مقنعا بهذا الشان.
وايا كانت الخلافات بشان مكانة اللغة العربية في حياتنا العامة، فاعتقد انه لاخلاف ان البولارية والصوننكية والولفية، هي لغات مستخدمة من طرف مواطنين موريتانيين، لهم الحق في استخدامها على اوسع نطاق، وبالتالي فنحن متفقون على اهمية ترسيمها، ولو اختلفنا في اليات ذلك واساليبه.
وفي انتظار ان تجد السلطات الطريقة الجدية والمثلى لذلك، بالتعاون مع النخب والمثقفين ورجال التعليم، وبالاستفادة من تجارب الدول ذات الوضعيات المشابهة، علينا ان نفسح لهذه اللغاتـ، التي هي موريتانية بالقطع، اكثر من اللغة الفرنسية مثلا، في محافلنا وفي وسائل اعلامنا، وفي كل تجليات حياتنا العامة، ولو اقتضى ذلك التدرج البطيئ، فان تصل متاخرا خير من ان لاتصل ابدا.
هذا فيما يخص اللغات التي صنفناها دستوريا على انها وطنية.
اما اللغة العربية، التي هي في الدستور حتى اشعار اخر، اللغة الرسمية للبلاد، فاعتقد ان موقعها الحالي محسوم، بالنظر الى انها جمعت الموريتانيين على اختلاف “قومياتهم”، وامتزجت باللهجات المنطوقة في البلد، وهي الرافد الاساس في اغلبها، وبخلاف الحال في بلدان اخرى، فانها في موريتانيا ليست لغة وافد، لان الشعب الموريتاني، بتركيبته الديمغرافية الحالية، بالاحتكام الى المنطق التاريخي، كان هنا منذ عدة قرون، بذات التركيبة بدون زيادة تؤثر كثيرا.
وكانت اللغة العربية على مدى تلك القرون، هي اللغة المكتوبة المستخدمة في معاملات الجميع، ناطقين باللهجة الحسانية اوبغيرها من اللهجات الموجودة حاليا، اوتك التي اندثرت ا وكادت، ككلام ازناكة، رغم ان انتشار الحسانية اكتسى في مرحلة من التاريخ صبغة سياسية، الا ان ذلك لم يمنع من استخدام العربية في المعاملات، ولم تصلنا اثار مكتوبة باي من هذه اللهجات، حتى تلك التي كانت دارجة الاستخدام، في الاوساط الزاوية بالمفموم التقليدي، الحافظة للتراث المكتوب.
ولااعتقد انه اليوم من الوارد، ان نقارن مكانة العربية بالبولارية ولاالسوننكية ولا الولفية، لا بالنظر فقط الى عامل الانتشار، ولا لكونها مصنفة لغة حية، في موقع ما من الترتيب اللغوي على مستوى العالم، ولكن لكونها لغة القران. و لا اظن ان في موريتانيا، ولا في اي بلد اسلامي، من يضع اللغة العربية، في ذات المكانة مع لغة اجنبية غريبة، مهما كانت قوتها ولادرجة انتشارها، لاننا كلنا نؤمن بالقران، ونعتز بانتمائنا الى الدين الاسلامي، والى لغته التي هي بالنسبة لجميع المسلمين، سواء في افريقيا او اسيا اوا وروبا اومريكا اوغيرها، هي لغة القران، وليست لغة امة بعينها بالمفهوم العرقي، مع تحفظي المبدئي على المفهوم، من وجهة النظر الانتربولوجبة، والذي ليس هذا مقام الحديث بشانه.
وبالعودة الى الطرح المحلي للقضية، هناك منطلقات يجب ان ناخذها في الاعتبار، قبل نقاش وجهات النظر والرؤى التي تطرح حين نتحدث عن مسالة اللغة والهوية في بلادنا ، واولها اننا في موريتانيا كلنا افارقة، ونعتز بذلك اوهو على الاقل، انتماء يمثل بالنسبة لي شخصيا مصدر اعتزاز. فنحن كلنا افارقة، الناطقون منا بالعربية اوباللهجة الحسانية على الاصح، وغير الناطقين بها. وليس فينا من هو اكثر افريقية من الاخر، ولو ان البعض، يصف سكان منطقة الضفة بالافارقة، وكان غيرهم من سكان المناطق الاخرى اوربيون غرباء…… وهي اوصاف لا يمكن ان تكون بريئة المقصد، واقل اهدافها بالنسبة لي، التفرقة باخبث مراميها.
المنطلق الثاني هو ان دعاة الفرانكفونية، وحماة الفرنسية والمروجين لها، وسدنتها في النظام الاداري، هم وللامانة بالاساس، مجموعة تنتسب بالمفهوم العرقي الضيق التبسيطي، وبكل صراحة الى ” البيظان” و “الكور” على حد سواء.
وحين ياتي مواطن من بابابي اوبيرام غرين او فصالة او وومبو اوتيشيت مثلا، الى المستشفى الوطني في نواكشوط، فهو لايفهم الا مايقال له بلغته الام، التي يتحدث بها في مدينته او قريته، ولا اعتقد انك ستزيده فهما مثلا، لطبيعة المرض الذي جاء للعلاج منه، اذا قدمت له التشخيص باللغة الفرنسية، التي هي لغة غريبة، بالنسبة لسكان غورغول كماهي غريبة لسكان تيرس زمور والحوض الشرقي اوغيرها من مناطق موريتانيا.
المنطلق الثالث الذي علينا كذلك ان ناخذه بعين الاعتبار، هو ان مسالة اللغة والهوية بالغة الحساسية في المجتمعات ذات الاعراق المتعددة، بحيث ان الحديث بشانها لايمر في اغلب الاحيان، دون بعض ردات الفعل، التي تصل حد التشنج في اغلب الحالات، خاصة اذا فاحت معها روائح الالحاق والاجبار والهيمنة، لاي سبب ولاي داع كان.
ولا اظن الناس الذين احتجوا على تصريحات المسؤولين الاخيرة بشان اللغة العربية، سواء في الجامعة او في الاحزاب السياسية، وما سال من حبر، وما اهدر من طاقات كلامية بسببها، قد فهموا على الوجه الصحيح، اوعلى الاقل اغلبهم، ولا اعتقد كذلك، ان من رحبوا بتلك التصريحات، لم يفهموا كذلك على الوجه الصحيح.
اولا اولئك الذين احتجوا على تصريحات الوزير الاول ووزير التعليم اواغلبهم – حتى لا اعمم تعميما قد يخفي اشياء اخرى – اغلبهم لديهم هواجس، اراها مبررة ووجيهة الى حد كبير، ومن وجهة نظري ان اصحابها، ليسوا ضد شيئ بعينه اسمه العربية مثلا، ولكنهم خائفون على مستقبلهم، كناس درسوا باللغة الفرنسية، واحسوا ان الارض قد ضاقت عليهم بمارحبت فقد ساروتهم الخشية على مستقبلهم المهني والوظيفي، في بلد قالت الشخصية الثانية فيه انه بلد عربي، وعلى من لايتكلم فيه غير العربية، ان يتدبر امره، هكذا يفهم الامر للوهلة الاولى.
اما الذين رحبوا بتصريحات المسؤولين بشان العربية وطبلوا لها، فاغلبهم هم كذلك، يحسون ان مؤسسات الدولة او اغلبها على الاصح، في القوت الراهن لا توفر لهم الافق المهني والشخصي المطلوب، بالنسبة لاشخاص درسوا او يدرسون باللغة العربية، واعتقدوا ان الامر بداية انفراجة، ستمنحهم المستقبل الامن وظيفيا واقتصاديا وحتى نفسيا، وهم الذين كان بالامس اغلبهم، يخجل من تقديم نفسه على انه من حملة الشهادات باللغة العربية، لان الادارة مفرنسة حتى النخاع.
ولا ابرئ ايا من الطرفين من ان تكون له اسباب خفية، ولكن اغلب الظاهر، لايخرج عموما عن هذه الاسباب الموضوعية، الراجعة بالاساس الى طريقة تقديم هذا التوجه الجديد نحو التعريب، ان كان هناك توجه اصلا في هذا المنحى.
واذا كان لدى الدولة توجه نحو التعريب، فعليها ان تاخذ الامر بالجدية الكافية، وان تتجنب الانتكاسات التي وقعت في الماضي، والتي سببها الاول الارتجال والتسييس.
وكما قال احد المفكرين الفرنسيين، فان الحرب لخطورتها، لايمكن ان توكل فقط للعسكريين، فان حسم قضية بهذا الحجم من الخطورة، لا يمكن ان يوكل للسياسيين كذلك، ولا يمكن ان يحسم في افق زمني محدود.
واعتقد ان علينا ان نعيد تصحيح بعض الاساسيات قبل اي شيئ اخر، لان هناك من يقول ان الدستور الذي نص على ان اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ليس مقدسا لا لانه كما قد قد يتبادر الى الذهن، مجرد ورقة فقط، ولكن لانه حرر في دوائر بعيدة عن التشاور الوطني، وفي ظل ظروف سياسية استثنائية.
ولو ان هذا الامر ليس خاصا بالدستور وحده، فاغلب القوانين ان لم تكن كلها اصدرت في ظل ظروف مماثلة، فلندرس المخرج الذي قد يصحح الامور بالنسبة لهؤلاء الذين يحتجون بالظروف التي حرر فيها الدستور، وان اقتضى الامر ان نجري استقتاء على قانون اساسي جديد، تحت اشراف دولي، ولا اعرف هل الجميع متفقون اليوم، على اننا خرجنا من الدائرة التي توصف بالاستئناية السياسية.
ولنتفق جدلا ان الامور كذلك، فهل سيكون من العملي بالنسبة لبلد في القرن الحادي والعشرين، ان يختار البولارية او الصوننكية او الولفية، لغة رسمية، وهي لغات لا تتوفر اي منها على ابجدية خاصة بها ، ولا على طريقة كتابة متفق عليها، والناطقون بها في العالم لايمثلون الكثير، امام لغات عمرها المكتوب مئات السنين على الاقل، وقدمت للبشرية انجازات فكرية وعلمية لها اسهامها النسبي في الحضارة الانسانية.
اذا فنحن بالنسبة للغة امامنا خيارات، اولها ان نختار احدى اللغات العربية او البولارية او الصوننكية او الولفية لغة رسمية للبلاد، وان نعطي اللغات الاخرى التي لم يقع عليها الاختيار، مكانة حقيقىية في الحياة العامة. واعتقد ان كفة العربية ترجح باقي اللغات انطلاقا من تراثها، ومن موقعها في موريتانيا وفي العالم.
ولكن الذي لامهرب منه، هو ان نمكن غير الناطقين بالعربية في موريتانيا، من الاحتفاظ بخصوصياتهم اللغوية والثقافية، في اطار الكيان العام، الذي تكون صبغته الغالبة بالمفهوم السائد هي العربية، ولو ان الامر لاعلاقة له بالنسبة لي بالنظام التعليمي، الذي هومجرد عنصر من منظومة متكاملة.
وعلى العموم علينا، وبحسب وجهة نظري المتواضعة جدا في هذا الشان، وحتى لاتتكرر التجارب الفاشلة والقصيرة العمر، علينا ان نعطي القوس باريها، وان نحيل الامر برمته، الى هيئة واسعة التمثيل، واسعة الصلاحية، وطنية التوجه والمسعى، وان نعطيها كل السلطة، لاقتراح ماتراه عمليا، ممكن التحقيق في هذا الشان، ولو وفق مراحل، بما يعزز الهوية المورياتنية، ذات المشارب المتعددة.
والاهم ان لانعطي للسياسة، اي سلطان على من يكلفون بهذه العملية، لان ذلك سيجعل الامر شبيها بمن يلعب بالنار، واذا كنا في المرات السابقة، قد اجتزنا تجارب مريرة في قضية الهوية، فما كل مرة تسلم الجرة، والوقت يمضي والتراكمات السلبية تزداد، وتركها دون معالجة وقتا طويلا، يحولها الى وقود لاي سوء تفاهم بين شخصين، من “قوميتين” مختلفتين، في الحافلة او في الشارع او ….ويحوله ببساطة الى مسالة عرقية تنتشر نارها في المجتمع كالنار في الهشيم.