الحسن ولد محمد اعلي
في غمرة التجاذبات السياسية التي شهدتها الساحة الوطنية إبان رئاسيات 2009 الممهدة للعودة إلي الشرعية الدستورية. في غمرة هذه التجاذبات السياسية برز خطاب سياسي جديد شكل طفرة في نمط الخطاب السياسي الموريتاني . خطاب شعبي رأى البعض أنه كان″ نجاديا″ بامتياز في حين رأى البعض أنه تقمص روح الخطابات ″ التشافيزية″ ، ذهب البعض ممن لم يحلوا لهم هذا الخطاب بوصفه بالخطاب الشعبي الساذج الذي يعكس ثقافة أصحابه و نظرته العسكرية للأشياء و هو الخارج لتوه من عباءة العسكر.
المهم أن عزيز بهذا الخطاب الشعبي الذي قد يكون افتقد البلاغة و الكاريزما″ الأوباميتين″ استطاع السيطرة على عقول و قلوب اغلب الموريتانيين لاسيما شريحة الفقراء و المعدمين الذين رأوا في صاحبه صورة المخلص و كأنه من نفس الخلفية الفقيرة .
كان هذا مقابل خطاب المعارضة الذي بدا موغلا في التجريد و الابتعاد عن الشعبية وملامسة دقائق الواقع اليومي للمواطن الفقير فأي مفارقة هذه أن يبدوا أصحاب النعال الثقيلة و مقولة نفذ ثم ناقش أقرب إلى قلوب الفقراء من أصحاب الفكر وحملة مشروع الدولة أعني أقطاب المعارضة الذين دفعوا ثمن معارضتهم و كانوا على مستوى التحدي حتى في أحلك الظروف و تحت حكم الرئيس المخلوع ولد الطايع الذي نكل بهم ورمى بهم في غياهب السجن وحاصرهم و مارس عليهم مختلف أنواع الضغوط . فكيف تراجع خطاب هؤلاء و الذي كان يحرك عواطف حتى أولئك الذين كانوا يجارون ولد الطايع تقية ؟ لعل العامل الأول في نجاح هذا الخطاب هو نجاح صاحبه في تسويق نفسه خلال الفترة الانتقال التي أمضاها في الرئاسة . استطاع عزيز الاستفادة من الآلة الإعلامية الوطنية التي تم توجيهها توجيها تاما ، و نشط في هذه المرحلة عرابي الانقلاب أو الحركة التصحيحية كما يحلوا لهم و صفها نجحوا في تسويق الجنرال على أنه جاء لغرض وحيد هو انتشال البلاد من براثيم الفقر و الضياع بمحاربة الفساد الذي نخر جسم هذه الدولة منذ نشأتها ، و لعل هذه الكلمة ” الفساد” كانت المفردة الأكثر ترددا علي السنة مسوقى هذا النظام لما لها من دلالة عند هذا الشعب ، و لما لمحاربتها من قبول لدي الأوساط المستهدفة .
إن المحاور الأساسية التي اعتمد عليها خطاب عزيز هي محاور قديمة جديدة فأول من طرح هذه المحاور ( محاربة الفساد ، عودة اللاجئين ، الملف الأمنى ) هو المعارضة بشقيها الداداهي و المسعودي لكن مع عزيز كان الطرح أوضح و أجرأ، فمن منا ينسي المقاربات التي كان دائما يتحدث عنها أحمد ولد داداه في خططه لمحاربة الفساد حال انتخابه و من منا ينسى تهجمه هو و مسعود على تلك الثلة القليلة – حسب وصفهم – من التجار المتنفذين أصحاب الحظوة عند ولد الطايع و الذين تحكموا في خيرات وخيارات هذا الشعب .
و تمضي الأيام ليتخندق أعداء الأمس في نفس الخندق ،نعم تخندقت المعارضة أ و بعضها علي الأقل مع هؤلاء التجار أعداء الأمس و مع أنه في السياسة لا عداوة دائمة و لا صداقة دائمة و إنما مصالح دائمة فإن المؤكد هو أن هذا التحالف قدم أكبر خدمة للجنرال في حملته الرئاسية إذ صوب سهام اتهامه إلى المعارضة واصفا إياها بالتآمر مع من كانت تصفهم بالأمس بمصاصي الدماء .
وهنا يسجل عزيز موقفا من هؤلاء واعدا جماهيره باسترجاع مال الشعب منهم بعد ما اتهمهم بسرقته واعدا بتوسيع السجون لتكون ملاذا لهؤلاء و أمثالهم من أكلة مال الشعب .
مرة أخرى يسحب عزيز البساط من تحت المعارضة بعد تبنيه ملف المبعدين لكن هذه المرة كان الطرح كما أسلفنا أوضح و أجرأ، فبالنسبة ل أحمد ولد داداه رغم أنه أول من تبنى ملف الزنوج المبعدين إلا أنه و تحت ضغوط هائلة من بعض المتنفذين من فلول الحزب الجمهوري و بعض الزعامات التقليدية لم يعد الطرح بنفس الحدة وذلك الحماس .
إن انضمام هذه الجماعة المتنفذة من زعامات تقليدية بالإضافة إلي انضمام بغض صقور و حمائم الحزب الجمهوري للمعارضة و خصوصا ” التكتل ” انضمام كل هؤلاء ألقى بظلال قاتمة على خطاب الحزب الذي عانى لعقود من وصفه بحزب الزنوج من قبل نظام ولد الطايع محاولة منه لعزله و تخويف غير الزنوج منه ، و هذا ما قد يكون قد شكل عقدة عند الحزب الطامح لاستيعاب الكل و هو على أعتاب استحقاقات رئاسية فلم يعد طرح ملف المبعدين الزنوج – كما أسلفنا – يحظى بذلك الاهتمام و تلك الحدة في الطرح مما حدي بالزنوج إلى البحث عن بديل جديد يتبنى قضيتهم و يحرك المياه الراكدة .
في هذه الأثناء دخل على الخط لاعب جديد مستقدم من الكويت ، ولا يكاد أحد يعرف عنه شيء كان ذلك اللاعب سيدي ول الشيخ عبد الله .و جد سيدي الأرض أمامه ممهدة و الدعم جاهز فقام بتبني ملف المبعدين الزنوج ، طبعا بإيعاز من الذراع الطويلة التي كانت تدعمه ، كانت تلك الذراع الطويلة ذراع القائد الأبرز بين قيادات انقلاب 3 أغسطس وصاحب القوة الضاربة فيه، كبير سدنة نظام ولد الطايع لفترة طويلة و قائد حرسه الجنرال عزيز. الذي كانت منزلته من ولد الشيخ عبد الله حسب رأي البعض كمنزلة صدام حسين من البكر في العراق كانت تلك ضربة أخري لقطب المعارضة الأبرز و الذي لم يرق خطابه في هذه المرحلة إلى مستوي التحديات رغم هشاشة و عدم إقناع الخطاب المضاد .
المهم حصلت الانتكاسة بنجاح مرشح العسكر و الذي لم يكن أكثر من واجهة رغم محاولاته تأصيل الديمقراطية و تهميش دور العسكر. هنا و رغم بعض الإصلاحات الواضحة للعيان وفتح الإذاعة و التلفزيون أمام المعارضة و إعطاء الحرية للصحافة التي صالت و جالت في تتبع عورات و سوءات وأعراض مسؤولي الدولة ووزرائها بل وحتى رئيسها الذي لم يسلم هو و أهل بيته من إزعاج صاحبة الجلالة ، و رغم ذلك لم تسجل تلك المرحلة أي مصادرات ولا متابعات ولا توقيفات وهو ما يحسب طبعا للرجل .
لم تستفد المعارضة طبعا من هذه الفسحة و هذا الهامش لتشكيل رأي عام يتبنى طرحهما و يدعم موقفها خصوصا في مرحلة طبعها ضعف مؤسسة الرئاسة ، وساد التسيب و تراجع الأمل عند المواطنين في أن تتحسن ظروفهم و تنجح ديمقراطيتهم الوليدة التي كان ينظر إليها بالأمس كنموذج للتبادل السلمي على السلطة في المنطقتين العربية و الإفريقية اللتين كانتا ترزحان تحت سطوة أنظمة شمولية ، انقلابية أو توريثية .
هذه المرحلة يمكن ان نسميها مرحلة انتكاسة و تراجع الأمل إذ فقد فيها المواطن أمل التغيير أو تحسن الأوضاع الاقتصادية . وهنا بدأ استياء المواطنين يتعالى و صرخاتهم ترتفع و بلغ الانسداد السياسي ذروته بين النظام و البرلمانيين و لم يكن الجنرال من ذلك ببعيد . هنا بدأنا نسمع عن طبخة سرية تعد في الخفاء ، أبطالها العسكر و بعض الساسة المتزلفين الذين استمرئوا المحابات. إستشعر هؤلاء الساسة دقة المرحلة و هم الذين أدركوا مبكرا تعاظم دور المؤسسة العسكرية على حساب مؤسسة الرئاسة بل أنهم أدركوا أن المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي وان الأمر آيل إليها قريبا فأرادوا أن يحجزوا لهم مكانا يقربهم إلى العسكر زلفى و يضمن لهم من الكعكة نصيبا .
في ظل هذا الواقع المأزوم خرج علينا الرئيس ولد الشيخ عبد الله بعد أزمته مع البرلمانيين ، والتي ظننا أنها ستنتهي بممارستة صلاحياته بحل البرلمان ، لكنه فاجئنا بقرار أجرأ هو إقالة قادة الأركان الذين رأى أنهم المحرك الفعلي للأزمة ، و رغم أنه أعني ولد الشيخ عبد الله لم يتجاوز ممارست صلاحياته الدستورية باعتباره رئيس الجمهورية و القائد الأعلى للقوات المسلحة إلا أن قراره المرتجل هذا كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس .
خرج القائد الفعلي على رئيسه الشكلي و أطاح به و هو الذي استقدمه من الكويت أصلا ، ربما لأنه الأنسب للعب دور ” الكومبارس “ في مسرحية هزلية أبطالها العسكر . حاول ” الكومبارس ” لعب دور البطولة فوجد نفسه خارج الحلبة.
هنا بدأت مرحلة جديدة بل حلقة جديدة من حلقات المسلسل الانقلابي الذي خلنا أن آخر حلقاته كانت حلقة انقلاب ولد محمد فال علي ولد الطايع ولي نعمته لندرك أن المسلسل الجديد بل الحلقة الجديدة هي الأكثر تشويقا و إثارة .
لقد كان الخاسر الأكبر في هذه المرحلة هو المعارضة الديمقراطية وهنا أعني الشق الداداهي منها الذي أعماه الطمع في السلطة عن لعب الدور المنوط به ، وهو رفض سياسة الانقلابات تحت أي مبرر . فهل سمعتم عن معارضة تصف نفسها بالديمقراطية تدعم الانقلابات بل تصفها بالحركة التصحيحية ؟ .
بما أن أغلاط الكبار بألف ثمن فقد دفعت هذه المعارضة الثمن باهظا عند ما تبين لها أنها تم استغلالها و أنها كانت تدور في فلك غير فلكها ، لكن هذه الاستفاقة جاءت متأخرة و أثرت على خطاب هذا الشق أو القطب المعارض ، فهذه الميوعة في المواقف والارتجالية و التسرع في اتخاذ القرارات قبل الحصول علي أي ضمانات هزقناعات جمهور هذه المعارضة وادفعها الثمن باهظا.
مرت الأيام و اتسعت الهوة بين النظام الجديد و المعارضة الدداهية التي رأت أن إملاءات المرحلة التحالف مع خصوم الأمس هنا أعني قطب المعارضة الآخر مسعود الذي كان تحالفه مع ولد الشيخ عبد الله -حسب رأيي- في مرحلة ما ضربة لمشروع الديمقراطية في هذه البلاد ذلك انه لم يكن هنالك إلا خياران في الجولة الثانية من انتخابات 2007، خيار الانضمام إلي معارضة تقليدية يعرفها مسعود حق المعرفة رغم مآخذه عليها و على زعيمها و خيار الانضمام إلى ولد الشيخ عبد الله الذي لا يمكن أن يفوت على مسعود أنه مدعوم من العسكر بل هو واجهة استخدمها العسكر للتحكم من خلف حجاب .
وهنا لعبت الإغراءات و البركماتية السياسية دورها ، لكن رغم المكاسب السياسية و الشخصية التي يمكن أن يكون حققها ولد بلخير ألم يكن ذلك الاصطفاف مع مرشح العسكر ضربة لمشروع الديمقراطية ؟ هنا ندع الإجابة للقارئ و التاريخ .
المهم أن الرجلان مسعود و داداه أدركا أن رهانهما كان خاسرا و في غير محله ، فرهان مسعود علي رجل ضعيف أصلا مثل ولد الشيخ عبد الله و الذي لا يملك من الأمر شيئا يعتبر رهانا خاسرا ، كما أن رهان ولد داداه علي العسكر كان أكبر غلطة بل غلطة العمر . هكذا أدرك القائدان جسامة التحدي و ضرورة التكامل أو علي الأقل التعاون ، فانخرطا في تحالف جديد هو الجبهة الشعبية للدفاع عن الديمقراطية التي شكلت جبهة الممانعة الداخلية إذ نجحت في إلغاء الأجندة الأحادية للعسكر ،وبضغط منها و ضغط من المنظومة الدولية و وضعت حدا لاستهتار العسكر بالديمقراطية و محاولاتهم فرض سياسة الأمر الواقع .
رغم نجاح الجبهة في معظم أهدافها ، ورغم العافية التي استعادتها المعارضة بشقيها و نجاحها في استقطاب جماهير معتبرة ، إلا أن خطابها لم ينجح في كبح جماح الجنرال الذي استطاع بخطاب بسيط اللغة عميق الدلالة أن يكتسح المعارضة في عقر دارها أعني في كبريات الولايات و عواصمها و حتى في المعاقل التي ظلت إلى عهد قريب خالصة للمعارضة و ذلك لأسباب سبق ذكرها .
جاء يوم الفصل،يوم الاقتراع وسط حديث الصالونات و استطلاعات الرأي العام التي كانت تجريها الجرائد طوال أيام الحملة وارتفع الحديث حتى بين أوساط بعض المراقبين و المهتمين بالشأن الوطني عن حتمية شوط ثاني لقوة المرشحين سيما عزيز من جهة و الثالوث ( أحمد- مسعود – أعلى ) و في هذه الحالة، حالة إجراء شوط ثاني فإن الخاسر الأكبر لا محالة سيكون عزيز باعتبار أن أعلى ولد محمد فال قد يتحالف مع الشيطان ضد عزيز الذي سحب البساط من تحته و حرمه من إعادة تجربة “آمادو تمانى توري ” في مالي .
أما أحمد و مسعود فقد كان الغزل بينهما مستمر بل كانا يعيشا شهر عسل لن يسمحا هذه المرة لأي كان بتكدير صفوه ، و هما اللذان اكتويا بنار التفرقة بينهما و دفعا ثمن ذلك .
انتهى الاقتراع و بقي الانتظار ، سيد الموقف لكن سرعان ما بدأت جرعات الفرز تعطي جرعة – جرعة لتبدأ المعارضة تتجرع المرارة قطرة ، قطرة و يبدأ الجنرال يتنفس الصعداء ليكتمل الفرز و تقع المفاجأة بإعلان فوز الجنرال و بنسبة52,58% . كان لهذا الإعلان وقع الصاعقة على آذان المعارضة التي صعقت وشلت لسماع هذا الإعلان ليبدأ الهرج والمرج و الحديث عن تزوير النتائج لصالح عزيز ، البعض يقول : هي تقنية متطورة ساعد بها النظام الإيراني المرشح عزيز، طبعا هذا يبقى دون تقديم أي دليل .
في هذه المرحلة سيطرت الدهشة و العجز عن تقديم أي دليل مقنع على خطاب المعارضة لاسيما حزب التكتل الذي لم يقبل بروح رياضية هذه النتائج كما لم يقدم هو و لا وزير الداخلية المحسوب عليه في الحكومة الانتقالية التي فرضها اتفاق دكار،لم يقدم أي منهم و لا من ممثليهم في مكاتب التصويت دليل على وقوع تزوير بل أكثر من ذلك شهدوا بشفافية العملية و نزاهتها ليزيدوا من تأزم موقف المعارضة و خطابها الذي بدا مهزوزا و متخبطا . أما ولد بلخير فقد آثر الصمت و الخلوة ليلتقط أنفاسه و يعيد ترتيب أوراقه للخروج بموقف متوازن .
طويت مرحلة الانتخابات و نصب عزيز رئيسا للجمهورية في انتخابات شهد لها كل المراقبين الوطنيين و الدوليين بالشفافية . لكن عزيز هذه المرة مختلف عن عزيز ما قبل الانتخابات فهو الآن رئيس بقوة صناديق الاقتراع و ثقة الشعب لا بقوة الدبابة ، و بذلك يكون قد أضفى شرعية دستورية على نظامه الذي عانى عزلة دولية دفعته إلى المراهنة على الجبهة الداخلية باستخدام خطاب ينحاز إلى الفقراء المحرومين و الذين كافئوه على الانحياز لهم بترجيح كفته في الانتخابات .
لقد استطاع عزيز بعث الأمل في قلوب المواطنين بعد أن قتل فيهم ولد الشيخ عبد الله الأمل بادعائه دائما أن موارد الدولة ضئيلة وليست كما كان يروج لها دائما كما كان دائم الإشارة إلى الوضعية السيئة للاقتصاد العالمي و انعكاساتها السلبية على الاقتصاد الوطني.
هذه النظرة السوداوية للأشياء ، أو الواقعية المحبطة ، لعب خطاب عزيز علي الاستفادة منها بتبني خطاب مغاير تماما يبعث الأمل و يستشرف المستقبل ، و لقد لقي هذا الخطاب قبولا جماهيريا عند شعب عاطفي كثيرا ما استهوته الخطابات العاطفية لاسيما إذا كانت ترفع شعارات من قبيل “بلد غني و شعب فقير ” و تعد بوضع حد لكل المسلكيات الفاسدة التي أفقرت الشعب و عاقت تقدم الدولة .
لكن ألم تصطدم آمال و تطلعات الناخبين الذين صوتوا لهذا المشروع بإحباطات الواقع و زيف الشعارات ؟ ألم تكن أول مكافئة لهؤلاء البسطاء هي تعيين رموز الفساد و مصاصي الدماء الذين عاثوا في الأرض فسادا و الذين لا يختفون حتى يظهرون من جديد وهم الذين يبدلون جلودهم مع تبدل كل نظام؟.
أليس في تعيين هؤلاء حجر على عقول الأمة وحكم عليها بالعقم ؟ أم أن هؤلاء المفسدين رقم صعب في أي معادلة سياسية يروم صاحبها البقاء في السلطة؟
ألم يكن حري بالمعارضة مهاجمة النظام مثلا من هذه الثغرة باعتبارها احدي نقاط ضعفه ؟ أم أن المعارضة بيتها ن من زجاج لذلك لا تستطيع أن ترمي بيت النظام بالحجارة.
لقد فشل خطاب المعارضة – حسب رأيي – في الاستفادة من أخطاء النظام و استغلال نقاط ضعفه ، بل إنها كانت في أغلب الأحيان تتكلم من موقف دفاعي فيما كان عزيز يتولى بنفسه الهجوم عليها عند كل سانحة معتمدا مقولة>> أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم <<.
في آخر زيارة له لمقاطعة عرفات كانت المعارضة حاضرة في خطابه ، بل إنها حظيت بنصيب الأسد من هذا الخطاب نقدا و تقزيما و تخوينا أحيانا .هكذا هو عزيز لم يعهد تضييع فرصة الالتقاء بالجماهير دون توظيفها في ترسيخ وجوده و إطفاء جذوة خصومه . في هذه الزيارة لمقاطعة عرفات لم تفت فخامته أن يعزف على ذلك الوتر الحساس الذي تطرب له ساكنة عرفات من آهل ” الكزرة ” و هو توزيع القطع الأرضية و مراعات العدل في العملية .
و هنا لفت فخامته انتباه ساكنة المقاطعة-في أسلوب خبر تأثيره و جدواه – إلى أن عهد الظلم ورمي المواطنين إلى الضواحي البعيدة حيث يتهددهم العطش و انعدام الأمن وانعدام البنية التحتية قد ولى كما ولى عهد الحكام والولاة المتجبرين الذين هم حسب رأي عزيز سبب كل تلك المصائب . و ذكر أن المواطنين من أهل” الكزرة “ باقين في أماكنهم وأن الذين سيرحلون منهم سيرحلون إلى أماكن مستصلحة حيث سيتمتعون بالماء و الكهرباء و كل البني التحتية الضرورية من طرق و مستشفيات و أسواق …الخ .
هذا الخطاب وهذا الأسلوب لامس هوي عند الفقراء و المساكين الذين هم السواد الأعظم لهذا الشعب ، فأطلقوا علي صاحبه رئيس الفقراء هذا مقابل خطاب المعارضة الذي فشل في التعاطي مع النظام و مع الملفات الساخنة ذات الاهتمام كملف الفساد و المبعدين و الملف الأمني.
هذا الأخير كان موقف المعارضة منه سلبيا فلا هي قدمت حلول بديلة ولا هي اصطفت مع النظام في رفع التحدي باعتبار أن التحديات الأمنية تتطلب وقفة جماعية . بل على العكس من ذلك كان موقف التشفي الذي طبع موقف المعارضة من الأحداث الأمنية كاختطاف الإسبان مخجلا وبلا مبرر.
لقد استطاع نظم عزيز رغم كل الاختراقات الأمنية ،و رغم ضعف الوسائل المادية و اللوجستية أن يحسن من آداء المؤسسة الأمنية و العسكرية بعد حالة الانفلات الأمني التي شهدتها فترة حكم ولد الشيخ عبد الله التي عرفت فيها الساحة الوطنية نوعا من عدم الاستقرار و تفشي للجريمة غير مسبوق . كما أن المقاربة الأمنية التي تبناها نظام عزيز سيما فيما يتعلق بضبط الحدود و تعزيز حراستها و تحديد نقاط العبور و الدخول إلى الوطن كل هذا ساعد في ضبط الأمن وولد ثقة عند الشعب بجيشه الذي استعاد قوة الردع من خلال عملية ” المزرب ” التي شكلت نجاحا استخباراتيا و أبانت عن جاهزية قتالية بات الجيش يتمتع بها بفضل الجهود التي بذلت .
كل هذه الإنجازات الأمنية مع إصلاح الحالة المدنية الذي تعتزم الدولة القيام به بغيت ضبط أوراق الحالة المدنية التي ظلت إلى عهد قريب تستغل من طرف الأجانب و المهاجرين ، كل هذه الإنجازات مع تبني الحكومة نهج الحوار مع السلفيين و الذي و إن كان لم يفضي إلى نتائج بعد إلا أن تبنيه و المضي فيه يعد تحولا محمودا و أجود من المقاربة الأمنية الخالصة ، إذ أنه قد يفضي بهذه الجماعة إلى مراجعة فكرية تضمن لها الاندماج داخل وطن هو بحاجة إلى جهود كل أفراده ، و يجنب الوطن السقوط في وحل هذه الجماعات كما يجنبه إنزلاقات أمنية هو في غني عنها لاسيما و أن هذه الجماعات فشلت دول أكبر و أقوى من بلادنا في دحرها عند ما تبنت المقاربة الأمنية و أهملت المقاربة الفكرية في التعامل مع الظاهرة.
و في الأخير يمكن القول أن ملحمة الخطاب السياسي التي بدأت بالتنافس المحموم على السلطة التي كانت قطب الرحى في هذا الصراع الملحمي لم تنتهي بعد بل إن حلقاتها لا تزال تتساوق و تتكشف و تتخذ أشكالا من الشد و الجذب و تسييس الملفات . لقد أعمى الطموح للسلطة و البقاء فيها الطرفين فقامت المعارضة بتسييس كل شيء قصد حصر الحكومة في الزاوية ، فلم تثمن للحكومة أي انجاز لا اقتصادي ولا سياسي ، حتى عندما أعلنت الحكومة القطع الكامل للعلاقات مع العدو الصهيوني ، بعد اتهام المعارضة لها بأن هذه العلاقات لا تزال قائمة ، حتى بعد هذا الإجراء لم تتفوه المعارضة ببنت شفه، هذا ناهيك عن قضية إضراب الأساتذة و مشكلة الأطباء الأخصائيين و إضرابات الزنوج في الجامعة احتجاجا علي سياسة التعريب المعلنة من طرف الوزير الأول. كل هذه الملفات شكلت مادة دسمة للطرفين فالمعارضة تتهم النظام بالعجز عن التعاطي مع هذه الملفات و النظام يتهم المعارضة بتسييس كل القضايا قصد تحقيق مكاسب ذاتية ضيقة ، لكن المعارضة ترفض أن تكون قد سيست الأمور التي لا علاقة لها بالسياسة و تتهم النظام أنه ورث هذه الحيلة عن نظام ولد الطايع الذي كان دائم الاتهام للمعارضة بتسييس الأمور التي لا علاقة لها بالسياسة وهذه – حسب المعارضة – صفة العاجز .
و لكي نكون منصفين فإن النظام لم يتعامل يوما بصفة ديمقراطية مع المعارضة فهو مارس ضدها الإقصاء و منعها من الاستفادة من المؤسسات الإعلامية الرسمية و التي هي ملك الشعب و الدولة و ليست ملك النظام و هذا ما يذكرنا بفترة حكم ولد الطايع . شيء آخر يذكرنا بحكم ولد الطايع هو هذه المحاولات من طرف الحزب لضم كل الأحزاب تحت لوائه و ممارسة الضغوط على الممانعين في سعي لتكريس الأحادية الحزبية و هو ما تطلب من ولد الطايع سنوات و سنوات لكن بالنسبة لأصحابنا الجدد يبدو الأمر أسرع من ذلك فهم يحثون الخطى و بوتيرة متسارعة إلى عهد ربما إستهوتهم أساليبه .هذا مقابل خطاب المعارضة الذي فشل في تسديد سهامه إلى مقاتل النظام فخسر الرهان و لم ينل من النظام.