ولد ذات يوم من عام 1918 في بلدة “اتويفجيرت” (النباغية) و ترعرع بين محاظرها الأصيلة ، قبل أن ينتقل إلى مدرسة المذرذرة الابتدائية ، شعلة ذكاء متوقدة النهم و الاندفاع.
التحق مبكرا بمدرسة الأعيان في بوتيليميت لينضم إلى قافلة المترجمين الأوائل التي شكلت في ما بعد، إدارة ما بعد الاستعمار التي حملت الكثير من صفاته و تطوعت بلا شروط للعب دور استمراريته بطرق كانت في أحيان كثيرة أقل رحمة و أكثر تحديا للشعور.
كان حاد الطبع مع الأكابر.. شديد التواضع للعامية .. شديد الحمية حين تنتهك كرامة مواطن.. شديدة الغيرة حين تنتهك حرمات الله .. واثقا من نفسه حد التواضع .. متصلبا في مواقفه حد التحدي.
أعلن ترشحه لمنصب النائب البرلماني الوحيد ، بعد مؤتمر ابرازافيل 1945 و تقرير الوالي الفرنسي بإنشاء إقليم موريتانيا و تخصيص مقعد لها في البرلمان الفرنسي، فكان من نصيبه بعد معركة صعبة فاز فيها على الفرنسي رازاك ( كان القانون الفرنسي يسمح للمواطنين الفرنسيين الترشح في أقاليم ما بعد البحار) ، رفع فيها عاليا سقف التحدي بشعاراته الثورية : “خروج المستعمر” .. “رفض دفع “العشر” كضريبة للمستعمر” .. “نزع الغرامة عن العامة” .. “الحرب على كل مظاهر الفساد الاجتماعي و الأخلاقي و الطبقي” .. “نبذ نفوذ الإمارات التقليدية من أجل قيام دولة مسلمة، على أسس العدل و المساوا .”!
شعارات ثورية كانت أكبر من زمنها .. و خطاب رجل دولة منسجم مع ذاته، وجد فيه الناس تعبيرا صادقا عن آلامهم و دعوة عنيدة لتحقيق آمالهم، من رجل خبروا صدقه، مدافعا عن قضاياهم في أصعب الظروف ، متحديا مستعمرا لا يرحم ، غير آبه بما قد يحصل له من جراء عناده و صراخه الرافض لوجودهم، المتحدي لكل قراراتهم ؟ كان فوزه نصرا تجاوز حدود الوطن إلى القارة أجمع ، تكلل بإنجاز أهم وعد قطع على نفسه العمل بكل ما لديه من أجل تحقيقه ، حين تم بموجب قرار صادر عن الحاكم الفرنسي في موريتانيا، إلغاء الغرامة على العامة، ليبدأ إحدى أصعب المهام في حياته و أكثرها إلحاحا في مشواره ألا وهي مهمة رسم الحدود التي تم بموجبها ضم الحوضين (الشرقي و الغربي) بعد أن كانا تابعين لمالي.
ـ في سنة 1948، قام بتعليق عضويته في الحزب الاشتراكي الفرنسي ، احتجاجا على اعتراف فرنسا بالكيان الصهيوني، ألغت فرنسا بعدها إرسال ثلاث سفن محملة بالعتاد كانت متجهة إلى الكيان الصهيوني .
ـ معارك متواصلة و انتصارات أسطورية، حولته إلى عدو فرنسا الأول في القارة و خطر مهدد لمصيرها بشكل متصاعد، لترمي بكل ثقلها في الاستحقاقات التالية لمنع فوزه بالكرسي ثانية، في حملة كانت شعاراته فيها أكثر جرأة و أوضح تحديا : “خروج المستعمر” .. “استقلال موريتانيا“.. “توحيد البلاد” ، فتم إهداء الكرسي لولد يحيى انجاي!؟ ـ بدأت مرحلة نضاله من موقع المعارض، فأسس أول حزب وطني (حزب الوفاق) انضمت له النخب المؤيدة له بتحمس منقطع النظير ، مستقطبا العديد من المناصرين في كل أرجاء الوطن.
ـ أصبح عقدة فرنسا الأولى في المنطقة و أرقها الدائم و شغلها الشاغل بدعواته التحررية و ثقة الناس فيه و اهتمامه بأمورهم و دفاعه المستميت عن مصالحهم و إتقانه العجيب للغة الفرنسية و إلمامه الواسع بالنظم و القوانين الفرنسية.
ـ في سنة 1956 تأتي الاستحقاقات الموالية و هو في أشد استعداده بعد سنين من العمل الجماهيري المباشر، تحول فيها إلى زعيم بلا منافس يثق فيه الجميع و يتصاغر أمامه كل خصم، مما جعل الفرنسيين أكثر إصرارا من أي وقت، على الوقوف في طريقه مهما كلف من ثمن : يسحق منافسه بفارق كبير .. و تعلن إذاعتي لندن و فرنسا نبأ نجاحه الباهر ، فتبدأ الدوائر الفرنسية المرتبكة فبركة سيناريو تمت بموجبه إعادة فرز نتائج دائرة كيهيدي ليعلن الحاكم آلفو نسو، في وقت لاحق، نبأ نجاح ولد يحيى انجاي، فيتعرض الحاكم الفرنسي للضرب الشديد على يد كاتبه المرحوم الحضرمي ولد خطري، احتاجا على !
زوير الحقيقة ليودع المرحوم الحضرمي في السجن في سنلوي قبل إرساله إلى نواذيبو.
ـ عاد إلى ساحة النضال أكثر اندفاعا و تحديا من ذي قبل و عادت الجماهير إليه بتدفق أكبر و ثقة أكبر و إصرار أكبر .، فكان مصرا على مقاضاة الفرنسيين على أرضهم ، في حين كانوا يفكرون في أي طريقة للتخلص منه . و بعد مواجهة صامتة ، كانوا يراقبون فيها عن بُعد، كل ما يقوم به لإحراجهم ، تقرر التخلص منه بحقنة سامة في أحد مستشفيات سينلوي ، كادت أن تنهي حياته لولا يقظة مرافقيه الذين انتزعوها قبل انتهائها و أحضروه إلى طبيب آخر قدم له المصل المضاد.
ـ ذهب إلى باريس متحديا كل مؤامراتهم و قدم طعنه . و في انتظار جلسة النظر فيه ، أطلعته المخابرات المصرية على مخطط مبيت لاغتياله ، ليقوم ميشيل فرعون (عميل للمخابرات المصرية في السفارة اللبنانية في باريس) بتهريبه إلى سويسرا في القطار ، في حين أخبر الفرنسيين أنه تلقى هاتفا مهما من الوطن و أنه سيعود فورا إلى السنغال في أول طائرة .
ـ في سويسرا قابل عباس فرحات و وقع معه اتفاقا بالنضال المشترك بين المقاومة الجزائرية و المقاومة الموريتانية ضد الاستعمار الفرنسي،.
ـ استقبله جمال عبد الناصر و وصفه بالبطل القومي .. و من إذاعة صوت العرب قدم بيانا إلى الجماهير التي كانت تنتظره بقلق في داكار بعد اتصاله بسيدي محمد ولد بي الذي أخبره فيه بأنه عائد إلى داكار خلال ساعات، لتضليل الفرنسيين.
بسم الله الرحمن الرحيم
“أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت
و إليه أنيب” صدق الله العظيم
يا جماهير شعبنا في موريتانيا و السنغال و السودان ، أنا أحمدو ولد حرمه ولد بابانا ، أخاطبكم من جمهورية مصر العربية .
لقد تعرضت لمحاولة اغتيال في فرنسا و قد نجوت بفضل الله و عونه.
أنا موجود في مصر و أتمتع بصحة جيدة .
أدعوكم جميعا إلى مقاومة المستعمر، أعداء الله و أعداء رسوله ، حتى تخرجوهم من بلادنا الطاهرة و الله ولي التوفيق أحمدو ولد حرمة ولد بابانا
في مصر ، التقى كل الفاعلين السياسيين و رجال الدين و تلقى وعدا من عبد الناصر بالدعم المادي و المعنوي لمقاومة الاستعمار ، ليرحل إلى المغرب بعد تلقي دعوة من الملك المجاهد محمد الخامس.
ـ تم استقباله سنة 1957 في مطار الرباط من قبل جلالة الملك استقبال الأبطال ..
و منها بدأ التخطيط لأعمال عسكرية ضد المستعمر الفرنسي :
سير كتيبة إلى أطار للقيام بعملية “تكل” (1957) ـ تمت محاكمته بعيدها من قبل المحكمة العسكرية الفرنسية في داكار .
النطق بالحكم :
القضية : معركة “تكل“
الإقليم : موريتانيا
الأضرار : 14 جنديا فرنسيا
المتهم الرئيسي : أحمدو ولد حرمة ولد ببانا التهمة : الخيانة .. و مناصبة العداء للفرنسيين الحكم : الإعدام شكل الحكم : غيابيا ـ 1959 يصل الأراضي المالية ..
يستقبل من طرف الرئيس المالي موديبو كيتا .. يوفر له الدعم اللازم في الأراضي المالية لتسيير عمليات عسكرية ضد الفرنسيين ـ يقوم بتأسيس قيادة لجيش التحرير في الأراضي المالية .
28 / 11 / 1960 ، إعلان استقلال موريتانيا .. و فرنسا تسلم الهدية لمن يستحقها بولائه لفرنسا لا من يستحقها بنضاله؟ ـ المختار ولد داداه يعلن عفوا عاما عن السجناء السياسيين الموجودين في السجون الموريتانية .. و تأسيس حزب الشعب ..
و مظاهرات “حاشدة” تنطلق في انواكشوط ، تصف من انضموا لحزب الشعب من حزب النهضة، بخيانة المبادئ و التراجع عن النضال.
ـ 1961 ، مجموعة من رجال المقاومة ، بقيادة ففاه ولد محمودي ، يقومون بزرع قنابل في مركز القيادة الفرنسية في النعمة ، في حفل تجتمع فيه مجموعة من الضباط الفرنسيين و يقومون بتفجيرها بعد انسحاب المدعوين من الموريتانيين و يلوذون بالفرار، عقبتها حملة اعتقالات مسعورة في صفوف حركة النهضة ..
و قيادة جيش التحرير بباماكو تعلن مسؤوليتها عن العملية و نجاح قائدها في الإفلات ـ المحكمة العسكرية في النعمة تصدر حكمها :
القضية : عملية النعمة
المتهم الرئيسي : أحمدو ولد حرمة ولد ببانا و بعض رفاقه التهمة : الخيانة و مناصبة العداء للفرنسيين الحكم : الإعدام شكل الحكم : غيابي (لاحظوا ماذا تغير بين نواكشوط و داكار!؟) و تواصلت عمليات حركة النهضة ضد المستعمر الفرنسي في السنوات الخمس التالية ، فكانت عملية أزويرات و تجكجة و غيرها.
ـ 1967 الزعيم أحمدو ولد حرمة يعلن توقيف نشاطه العسكري و السياسي ضد المستعمر في موريتانيا بعد مراجعة الاتفاقيات بين فرنسا و سلطة ولد داداه التي تم بموجبها انسحاب القواعد الفرنسية من موريتانيا بسبب هجمات حركة النهضة المتواصلة و هو سبب لم يتم الإعلان عنه بطبيعة الحال.
“لقد انتهى دوري .. علي أن أنسحب”
هكذا قال سنة 1967 قبيل مغادرته الأراضي المغربية متوجها إلى المملكة العربية السعودية حيث التحق برابطة العالم الإسلامي التي بعثته سفيرا لها في جمهورية الغابون.
ـ دخلت حكومة الغابون على يده الإسلام و تسمى رئيسها “الحاج عمر بونغو” بعد حجه بيت الله الحرام و دخلت الكونغو منظمة العالم الإسلامي.
ـ 1972 ألغي حكم الإعدام الذي صدر في حقه من طرف المحكمة العسكرية في داكار (1957) ، بعد وساطة سعودية ـ مغربية مكثفة .
ـ في سنة 1973 و بسبب نفس الوساطة ألغت سلطة ولد داداه حكم الإعدام الصادر في حقه إثر عملية النعمة (1961) ـ سنة 1974 عاد الزعيم إلى أرض الوطن بعد عقد و نيف من النضال من أجل سيادة موريتانيا التي تم تقاسمها في غيابه بين المستعمر و أذياله.
ـ لم تكافئه البلاد التي نذر حياته للدفاع عنها ، لا حتى بموكب خجول عند قدومه .
و في موكب متواضع من العلماء و الوجهاء و المثقفين ، حمل إلى مثواه الأخير ـ تغمده الله برحمته الواسعة ـ من نواكشوط إلى مدفن أجداده (تنبيعل) حيث مسقط رأسه.
ـ انهالت التعازي من كل أنحاء العالم من الملوك و الرؤساء و الوزراء و القادة و الشيوخ .. جاء بعضهم إلى موريتانيا لتعزية أسرة المجاهد العظيم تغمده الله برحمته الواسعة، من دون أن تعبر سلطة بلاده عن أي إشارة لتعزيته في غير بلاغ مخجل أكثر من خجول، أذيع في حصة البلاغات و الاتصالات الشعبية عشية وفاته؟
هذه مجرد لمحة بسيطة عن رجل ملأ الدنيا و شغل الناس .. عن رجل المواقف الصعبة و المسافات البعيدة .. عن رجل أمة لا دولة .. عن رجل لا تكفي آلاف الصفحات لرسم بعد من أبعاده اللا متناهية ..
هذه مجرد نبذة خجولة عن رجل شرد من بلاده و عملت كل ماكينات دعاية الأنظمة المخجلة و الاستعمار المفتري على تشويه سمعته فظل يكبر بقدر ما يصغرون..
هذه مجرد إطلالة عاجزة، على حياة رجل تجاوز حدود القارة و العالم ليظل موقف بلاده منه يذكرنا بأروع بيت قالته العرب :
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها و لكن صدور الرجال تضيق.
( و أعرف جيدا أن الكثيرين سيبحثون لي عن مبررات يتفنون في فهم سلوك أصحابها و أصحابهم: هذا دفاع عن الوزير .. عن نظامه .. مغازلة واضحة لولد عبد العزيز .. تزلف غير محسوب العواقب للشيطان .. إعلان انتساب لحزب السلطة : تلك مشكلتكم كالعادة .. و تلك مشاكلي كالفطرة )
لقد أردت بهذه الإطلالة الشديدة الإيجاز، الرد على كلمة طائشة (كعادة صاحبها) تناولها الإعلام بتلذذ لم أفهم سره .. و تواطؤ يفضح أسرارهم :
من حق أحمد ولد داداه (الجدلي جدا) أن يخالف و يختلف مع د/ الشيخ ولد حرمه ..
من حقه (المؤكد) أن يدعو الناس للحيلولة دون ظهور من قد يساعد التاريخ النائم ـ إذا ما استيقظ ـ في تحويله إلى أسطورة محرجة أخرى ..
إلى قصة إزعاج أخرى تفضح خيانة من كانوا الخونة ..
من حق أحمد ولد داداه الكامل و غير المنقوص أن ينعت د/ الشيخ ولد حرمة بما يشاء لكنه يذهب بعيدا ليوقظ تاريخا هو أكثر من يحتاج إلى نومه ..
يذهب بعيدا إلى ميراث تاريخي تتلطخ أيادي أقرب الناس إليه بآثامه ..
يذهب بعيدا إلى بداية قصة ما كان ينبغي أن تحرج سواه ..
يذهب بعيدا ،بعيدا ، حيث يقف أحمدو ولد حرمه وحده شامخا و يطأطئ الجميع رؤوسهم خجلا..
يذهب بعيدا بعيدا ، بعيدا ، حيث لا ينبغي له بالضبط .. حيث لا يجدر به بالذات .. حيث يتحول إلى مهرج حقيقي .. إلى مرتهن لعقدة لا حل لها .. لا حدود لبشاعتها .. لا سقف لسمائها ، حين يقول جاهلا لنصف التاريخ و متجاهلا لنصفه، أن الشيخ ولد حرمة ليس موريتانيا؟!
فبماذا ، سوى الخيانة تستحق يا زعيم ؟
بماذا سوى الخجل تستحق يا زعوم ؟
بماذا سوى العمالة تستحق يا زاعم ؟
بماذا سوى التآمر تستحق يا متزاعم ؟
بماذا سوى حزب الشعب تستحق يا مِـزعامة ؟
أنت بحاجة ماسة إلى مسح جيولوجي لخرائط أحلامك المغبرة ..
إلى مسح ضوئي لأفكارك المظلمة ،
فلماذا لا تقف مع أطباء الأشعة بدل الوقوف في صف سياسيين لا يعرفون إلى أين تتجه؟ يحكمون على الرجل بالإعدام .. و على أبنائه “بغير الموريتانيين” لأنهم ولدوا في المهجر !؟ كم أنتم مقنعون .. و عادلون .. و منصفون !؟ كنت ستكون أكثر إقناعا لو قلت: لأنه لم يخبر عن مكان تواجد أبيه بعد مولده ..
كنت ستكون أكثر إقناعا لو قلت: لأن أباه كان ينصب العداء للفرنسيين على “أرضنا“
كنت ستكون أكثر حنكة ( و هو ما سيشد إليك انتباه الجميع ) .. و أقل غموضا ( و هو ما سيخرجك من عزلة الأنانية) لو قلت صادقا : لأنه ابن رجل ورثنا بغضه عن الفرنسيين ..
ـ يكفي أحمدو ولد حرمه أنه جابه طيلة حياته ، طغيان المستعمر الفرنسي ، دفاعا عن دينه و أرضه و عرضه ..
يكفي المجاهد أحمدو ولد حرمه أنه عاش شريفا رافضا للذل و الخضوع ، حين تدافع الطفيليون على موائد المستعمر ..
يكفي المجاهد العظيم أحمدو ولد حرمة أنه عاش كريما و مات كريما في زمن مخجل، مخجل، مخجل..
رحم الله المجاهد الكبير أحمدو ولد حرمه ، أعطى موريتانيا كل ما عنده و لم يأخذ منها أي شيء ..
فكيف نفهمه ؟
رحمه الله رحمة واسعة ما أعظمه ..!؟
سيدي علي بلعمش