وأكد الباحث آَلاَّ بن محمدن بن منيه أكّد في تقديمه لأطروحته أنه [نظرا للأهمية البالغة التي تكتسيها العقيدة في حياة المسلم، وضرورة خلوّها من شوائب الشِّرك، ونقائها من أدران الشَّك والخرافات.. ونظرا لما يسود الحياة الراهنة من تصورات عقدية تَفرّقت بها السُّبل لتحيد بها عن جادة الصراط السوي، وما يتطّلبه ذلك من تعاهد للعقيدة بمراجعة وتصويب ما هو كائن بما يجب أن يكون.. ونظرا للدور الفعّال للمصطلحات كوعاء حامل وحامي للمعاني والدلالات، وما تمليه وتحتّمه الضرورة العلمية من المحافظة عليها حتى لا تتسيّب أو تتميّع، أو يستغلّها المغرضون أيا كانوا على أي وجه أو غرض كان.. نظرا لكل ذلك وغيره – مما له به مسيس صلة – يأتي جلوسي اليوم أمامكم للتّقديم للبحث الذي بين أيديكم والدّفاع عنه بعد مناقشته من طرف لجنتكم العلمية المختصّة، التي شرّفتني بموافقتها الكريمة على تخصيص جزء هام من أوقاتها الثّمينة لقراءته وتقييمه وتقويمه].
وأضاف الباحث مخاطبا الأساتذة المناقشين [لا يخفى عليكم أن ضبط المصطلحات يأخذ أهميته على وجه الإلزام – منهجيا – كلما كان المصطلح ذا شأن دلالي فعّال كمصطلح: “الوسطية” الذي ملأ – في عصرنا – الدنيا وشغل الناس.. ولم يعد منضبطا بضوابط ثابتة، ولا تحكمه أسس ومعايير محدّدة، ما جعله مشتبّها بغيره من صوّر الباطل المتعددة، أو هكذا أريد له – على الأقل – فغدا يحيل في الكثير من استخداماته على معان من قبيل: [المداراة، المداهنة، التّذبذب، التّنازل، التّساهل…] وما شاكلها من ألفاظ وأنساق لغوية، أو حمولات دلالية يساق مصطلح الوسطية للتّعبير عنها غالبا في العصر الراهن.. فهو لهذه الأسباب وغيرها يتصدّر قائمة حاجيات الأمة من هموم المرحلة، خاصة ضمن إطاره العقدي].
ونبّه الباحث آَّلاَّ بن محمدن بن منيه إلى أن [ الاهتمام والعناية بدراسة العقيدة من مصادرها الإلهية (الرسالات السماوية) دراسة مقارنة بين أصلها النقيّ ومتحوَّلها الذي ران عليه شوب الباطل، وغير ذلك من الملل والنحل والمذاهب له أهمية كبرى وثمرات عظمى؛ لما يترتب عليه من تمييز الحق عما شابه أو تشبّه به، متسميّا باسمه، أو موسوما بوسمه، من الأمور التي لم تعر من دخن الضلالات، وأباطيل الخرافات وأنواع الشبهات]، مردفا أنه [بالمقارنة يتّضح الباطل وتقوم الحجة على المخالِف، وتهفوا النفوس إلى الحقّ ويزداد إيمان المستمسكين به ثباتا، ويقينهم اطمئنانا].
ورأى الباحث الموريتاني أنه [على هذا الأساس واجه العلماء عبر تاريخ الإسلام وفي مختلف البلدان ظاهرتي: الإفراط والتفريط ، حرصا منهم على أن لا تكدّر السير على الجادة شعب الباطل بتلّون صور بدع ضلالاته، وصنوف ضلالات بدعه].
وأكّد الباحث أنه من هذا المنطلق جاء اختياره لموضوع أطروحته: [الوسطية في الأصول العقدية – دراسة مقارنة بين الرسالات السماوية (اليهودية – النصرانية – الإسلام)].
وأشار إلى أنه [لسائل أن يسأل عن دوافع ودواعي اختيار تناول العقيدة من منظور وسطي.. أو الوسطية من منظور عقدي؟ ولماذا في هذا الظرف تحديدا؟ وهل يتجه للعقيدة الوصف بالوسطية أصلا؟ وإن أمكن – علميا ومنهجيا – فعن أي وسطية نتحدث؟]، مضيفا أن[ الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها هي مبرر وجود هذا العمل دافعا وهدفا، رجاء أن يشكل إضافة علمية جديدة تسدّ ثغرة عقدية تلائم مقتضى الظرف الزماني، وتنساق لسياق الحاجة العلمية الراهنة. لأن أي موضوع لا يخدم قضايا الأمة وما تنشغل به من هموم في أمور مَعاشها ومَعادها، أو بعضهما – على الأقل – ينكِّب أهداف البحث العلمي الجاد، ولا ينسجم مع المقاصد الكبرى لشريعتنا الغراء].
ورأى أن [تكرار واجترار مسائل ومواضيع لم تعد إشكالاتها مطروحة، أو تمّ إشباعها بحثا.. أقرب إلى العبثية وهدر الإمكانات – بلا طائل – منه إلى الجدّية وتسخير القدرات لإضافة علمية جادة تسعى لجلب مفقود. وأن من تأمل واقع الأمّة الراهن لا تخطئ عين بصيرته شساعة البون بين مشاربها وأهدافها، والاختلاف المخلّ بين منطلقاتها وغاياتها.. يتجلّى ذلك في السائد من الإسراف والتقتير [غُلوّا وجفاء] بالنظر لاتّساع دائرتي الإفراط والتفريط باطّراد].
وشدّد الباحث على أن [العقيدة الاسلامية تعتمد حقا ذا حدود، له بدايات و نهايات.. وكلما خرج عن حدود الحق دخل في الباطل – لامحالة – سواء كان قبل البدايات أو بعد النهايات، لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَل} ، كما أن من أخذ ببدايات الحق عليه أن يستمر داخل الحدود، لألاّ يسقط في الباطل “غلوا و جفاء”.. وعليه – أيضا – أن يكون على حذر من إخراج بعض عناصر الحق، واعتبارها ليست منه.. أو تختلط عليه بداياته بغيرها، فلا يدخل فيه أصلا، أو يدخُله لكن يدخِلُ معه فيه غيرَه ، فيسقط – والحالة هذه – في باطل “التقصير والتفريط”، ولا صلة لشيء من كل ذلك – بتاتا – بمفهوم مصطلح وسطية الإسلام].
وأردف الباحث آلاَّ بن محمدن بن منيه أن [المنجي من غائلة “الغلو إفراطا”، وبائقة “التقصير تفريطا” هو ما كان بين ذلك قواما، نهج الوسطية الحقّة، المحقّقة للاستقامة على جادة الصّراط المستقيم.. لكون الوسط هو الأقوم الأعدل، الموصّل إلى الغاية بأيسر وأقصر الطرق الموافقة لقصد الشارع ومبتغاه، وكل ما خرج عن هذا الحدّ ولم ينضبط بما تضمّنه من قيد كان مذموما.. لأن القصد رعاية الوسط الممدوح في جميع الأمور، وترك الإفراط والتفريط في جميع المسائل، خاصة الاعتقادية منها ، لترتّب غيرها عليها صحة وفسادا مدحا أو قدحا.
وخاطب الباحث أعضاء اللجنة العلمية قائلا: [ من المعلوم أن المؤلَّف يُقرأ فحواه ومضمونه من عنوانه الذى يُفترض أن يكون جامعا لشتات أجزائه مانعا من دخول غيره فيه أو عليه، لذا كانت معرفة العنوان متوقّفة على وضوح دلالة أجزائه، وفائدة النسبة بينها في صيغتها التركيبية، لأن المركّب لا يمكن أن يعلم إلا بعد العلم بمفرداته، خاصة من الوجه الذي لأجله سيق التركيب فيه].
وأضاف أن [مقتضيات المنهج في البحث العلمي الأكاديمي تستدعي تعريف الألفاظ المؤلِّفة في صيغتها التركيبية للعنوان، بعد تفكيكه، وتتبع أجزائه: نشرا وتحليلا وتعليلا، إذ الغاية من الألفاظ في أصل وضعها اللغوي معرفة غرض المتكلِّم أو الكاتب من كلامه أو مكتوبه، معرفة تشمل المركّب بعد ما شملت أفراده.. وعليه فالمصطلحات المستهدفة ضمن مشمولات عنوان هذه الأطروحة هي ألفاظ: “الوسطية”، “الأصول”، “العقيدة”].
يردف قائلا: [وهذا يقودني إلى التّطرق ـ بإيجازـ لذكر مجمل الخطّة المنهجية التي اتّبعتها لمفصلة عناصر هذا العمل حيث استقر تصوّري لها على النحو التالي:
1 ـ المقدمة: تطرقت فيها لمضمون البحث والحاجة إليه مع ذكر الأسباب الداعية لاختيار هذا الموضوع بالذات والصعوبات والعراقيل التي اعترضتني أثناء مكابدته ، مع الإشارة لأهم الإشكالات التي يثيرها، وطبيعة المنهج العلمي المعتمد في معالجته.
2 ـ الباب الأول: يعنى بضبط وتحديد المرادات اللغوية والشرعية التي لأجلها سيقت المصطلحات (الكلمات المفتاحية المشكلة في صيغتها التركيبية للعنوان)، وببيان الحاجة لتجديد العقيدة في ضوء الوسطية، من خلال أربعة فصول ضمت أربع عشرة مبحثا.
3 ـ الباب الثاني: يعالج مفهوم ووجه الوسطية في أركان وأصول الاعتقاد من خلال سبعة فصول استوعبت خمسة وعشرين مبحثا.
4 ـ الخاتمة: وفيها تم ـ بإيجاز ـ تجميع أهم الأفكار الواردة في البحث، وكذا النتائج المتوصَّل إليها، مع الإشارة إلى أن آفاق استشراف مستقبل البحث العلمي الممنهج في هذا الموضوع: [وسطية العقيدة] أو [عقدية الوسطية] يُتلمّس في سياق مواكبة البحث – عقديا – لضرورات التجديد ومقتضياته في كل ظرف وحال بمتطلباته، وبما يلائم سيرورة تقلبات الأفكار فيه، ضمن إطار مفهوم وسطي إسلامي أصيل، لا محل فيه لدخن واردات الأفكار، والرؤى والتصورات الغريبة على الإسلام والمسلمين].
وعن المنهج العلمي المعتمد في الأطروحة يقول الباحث آلاّ بن محمدن بن منيه: [ لقد اتّبعت لتنفيذ الخطة المنهجية أو البنية الهيكلية ما ألفيته مناسبا لها من مناهج البحث العلمية كالمنهج التحليلي النقدي لأجل استكناه مستبطنات دلائلها، وتحديد ما يناسب القضايا والإشكالات المعالَجة، بالصيغ والطرق الملائمة، الموافقة لمضمون ومقاصد الشرع، المنسجمة مع العقل ومفهوم اللغة ومنطق العلم – وكذا المنهج الاستنباطي الذي ربما ألجأت إليه الضرورة أحيانا – بعد مقارنة النصوص ومناقشتها وتحليلها وتعليلها].
ويجدد الباحث آلاّ بن محمدن بن منيه خطابه لأعضاء اللجنة بقوله :[ أساتذتي الأجلاء: في إطار محاولة منهجة العمل العلمي أكاديميا ضمن هذه الأطروحة سعيتُ – قدر المستطاع – لأن أكون صريحا فيما أعرضه من آراء، أو أصل إليه من نتائج، مستحضرا أن الباحث ناشد حقيقة، وتلك لا يلائمها التضبيب أو التظليم .. مع احترامي الكامل لآراء الآخرين ـ مهما دقّت أو جلّت ـ ولتحقيق هذا المبتغى حرصتُ على الأمانة في نسبة ما تمّ نقله من نصوص أو أقوال إلى ذويها – في الغالب الأعم – ما لم يخنّي الإرهاق أحيانا، فتشذّ عن هذه القاعدة بعض الاستشهادات أو الأقوال سهوا أو نسيانا.. ذلك أنه من بركة العلم أن ينسب لذويه، لهذا لم أقدم على الزيادة أو النقص أو التغيير المخلّ بجوهر الآراء والنصوص المنقولة، أو توظيفها في سياق نشاز.. وإن حدث تصرف من أي نوع اقتضته مقتضيات المنهج العلمي، فإنني أنبه عليه بعبارة [بتصرّف] بعد توثيق النّصّ أو الرّأي، حتى يكون القارئ على بيّنة من أمره.
كما حاولت – جهد طاقتي – أن أتجرّد من الذاتية حين أدخل الموضوع بذهنية حرصت على عزلها عن المؤثرات العاطفية، قصد أن أنتهي من أي موضوع أناقشه أو أعرضه إلى ما ينهيني إليه، متوسِّلا بهجر الغرابة في اللّفظ، أو التّعقيد في الأسلوب، أو إدخال ما هو خارج عن أي مسألة فيها، أو الاحتجاج بما يتوقّف بيانه على المحتجّ به عليه ليلاّ يلزم الدور أو التسلسل.
هذا مع محاولة استحضار أن يكون ما جيء به مسوقا على حسب إدراك المخاطَب من أهل العصر، بمقتضى ما تدعو إليه حاجته – برأيي.
وفي الختام لا أدعي – أبدا – في هذا العمل بلوغ الغاية المثلى، وحسبي أنني حاولت مهما قصرت أو نسيت أو أخطأت…
أما عزائي ففي ما سيحظى به البحث بعد لحظات من تقويم وتقييم من طرفكم سيادة أساتذتي الفضلاء أعضاء لجنة الفحص العلمية المحترمة، وهو ما سيمكنني من تدارك الخطأ وإصلاح الزلل تقويما وتصويبا، حتى يتسنّى إخراج الأطروحة في حلّتها النهائية لتأخذ مكانتها بين نظيراتها على رفوف المكتبة الإسلامية خصوصا والإنسانية عموما.
وما توفيقي إلا بالله الذى له الأمر من قبل ومن بعد .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين].
وبعد نقاش مستفيض استمرّ من صلاة العصر إلى ما بعد صلاة المغرب، تم فيه التّنويه بالبحث والجهد المبذول فيه، حيث تكرّر التأكيد من طرف أعضاء اللجنة بأن هذا العمل يشكّل قيمة علمية مضافة، أكّد على ذلك – مثلا – كل من الدكتور: مصطفى الهند الوافد من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة المحمدية، والدكتور: أحمد الزيادي الوافد من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة القنيطرة.
وبعد استكمال المناقشة ، استأذنتْ اللجنة لتشرع في المداولات تحت رئاسة وإشراف عميد الكلية، لتخرج إثرها معلنة أمام الجمهور النوعيّ الذي غصّت به القاعة أنها قررت إجازة هذه الأطروحة بمنح صاحبها درجة الدكتوراه في علم العقائد ومقارنة الأديان بميزة [مشرِّف جدًّا] التي هي أعلى ميزة وتقدير يمنح لبحوث الدكتوراه كما هو معلوم في الأوساط الأكاديمية.
الباحث آلاّ بن محمدن بن منيه حاصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في انواكشوط ـ موريتانيا بتقدير: [جيد] ، وظل حاصلا على الرّتبة الأولى خلال السنتين المنهجيتين إبّان تحضيره لدبلوم الدراسات العليا المعمّقة من وحدة المقاصد العقدية في الفكر الإسلامي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية.