تحمل عبارة “ويل امك يالوراني” شحنة دلالية معبرة طالما استخدمناها وتداولناها نحن معاشرالناطقين بـ”الحسانية” حتى أننا في مرحلة من تاريخنا السياسي أطلقناها على برنامج تلفزيوني ساخر، كان يُعنى بنقد الساسة والسياسة والسوس، وكلما اشتق من تلك المادة الرائجة التي يتغذى عليها جل هذا المجتمع، كان ذالك قبل أن يختفي ذالك البرنامج بقدرة قادر، ويؤذن في الناس أن “ويل أمك يلوراني“.
تذكرت هذه العبارة وأنا أتابع الهرج والمرج والترحل يمنة ويسرة، وبعث الناس من مراقدهم لينتسبوا إلى الحزب الحاكم في فصل آخر من إدراما فصول المسرحية الرتيبة “كلنا مع المخزن” ذالك الفصل الذي فجر حرب “داحس والغبراء” بين ممثليه فأشرعت بينهم الأسل وتنابزوا بالألقاب.. قبل أن يذهب كل فريق إلى صب جام اللعنات على كتّاب الفصل، فيما ذهب فريق إلى تسديد اللكمات إلى المخرجين.. متهما إياهم بتعمد إعطائه دورا لا يتناسب مع حجمه، ولا يليق بشحمه ولحمه.. كان أداء يبعث على الشفقة؛ لكنه بالتأكيد كان فصلا مضحكا، رغم أنه يعاد للمرة الرابعة مع اختلاف في الديكور والإنارة.
لنعد للواقع لنعرف ما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك؟ إنها الدولة ولا أحد غيرها، لقد أدى كون الدولة نفسها خصما وحكما.. إلى ضياع كل شيء حتى الدولة نفسها.
لقد انتقلنا من المنافسة على الفوز بقلوب الناس.. إلى المنافسة على الفوز بقلب الدولة بعد أن أصبح الفوز به أقرب الطرق إلى النجاح في كل شيء.
قبل أيام خاطبت أحد غلاة المعارضة السابقين وسألته ما الذي جعلكم تتنكرون لخطكم السياسي بهذه السرعة؟، ألا تخشون من حكم الشعب القاسي؟، ليرد علي: “لا المهم حكم الدولة لا الشعب فعند ما تكون في صف الدولة ستتكفل لك بكل شيء حتى الشعب الذي سيأتيك طائعا، إن للدولة منة على الشعب، وليس للشعب منة على الدولة“.
وحدها أيام المرحلة الانتقالية حاول الأمر أن يختلف.. كانت الدولة دولا حائرة وهو أمر لم ينتبه إليه الناس إلا بعد أن فات الأوان، وأصبح المستقلون غالبية الغرفتين، والرئيس ولد الشيخ عبد الله رئيساً، أما اليوم فإن الدولة عادت إلى طرفيّتها؛ لذلك فإن النجاح سيكتب لمن كتب له الفوز بقلب الدولة غير الرقيق.. خلل بنيوي صارخ أفقد الحياة السياسية معناها وأفشل كل شيء في هذه الصحراء.
الغريب في الأمر أنه بعد أن يعطف قلب الدولة على من يعطف عليه، وتنبذ منافسيه في عراء بعيدا عن المناصب الحزبية والامتيازات الاقتصادية والإدارية.. يبدأ المنبوذون في تلمس طرق أخرى قد توصلهم إلى قلب الدولة ولو بعد حين.
لذالك فإن الجميع أصبح يتسابق إلى تقديم قرابين الطاعة للدولة التي أصبحت طرفا بعد فترة قليلة من الحيرة والتردد، يبدو ساستها اليوم في عجلة من أمرهم ليطمسوا تلك الصفحة ويعطوا الإشارة إلى أن “حليمة عادت إلى عادتها القديمة“.
فمن منا لم ير الشلل يستشري في مفاصل الإدارة العامة؛ لأن السواد الأعظم من عمالها قادوا لجان الانتساب لـ”حزب الدولة” الذي أصبحت مصالحه فوق المصالح العمومية بعد أن تلاشى الحاجز الباهت الفاصل بين الحزب والدولة..
لنشاهد بعد ذلك والي ولاية مهمة يترأس لجنة تضم مديري كبريات الشركات الوطنيه ومسؤلي الحزب الحاكم.. بهدف تخطيط وتنفيذ مهرجان شعبي للحزب الحاكم يقام خصيصا لمضايقة مهرجان كانت المعارضة أعلنت عنه قبل ذلك.
إن معارضة الدولة رغم أنها مكفولة قانونا ودستورا أصبحت ضربا من الهوس، فمعارضو الدولة باتوا معرّضون للبطش الوظيفي الذي ينزلهم من علياء وظائفهم إلى حضيض الشارع، وإن كانوا فاعلين اقتصاديين فإنهم مهددون بضرائب تنوء بحملها “جبال آدرار” بالإضافة إلى التهميش والإقصاء من الصفقات العمومية.
إن الدولة هي الجهاز الأقرب المنظم في هذا البلد وقد وظفت كل الأجهزة لصالحها ووُظِّف كل ذالك لصالح رأس الدولة، فعند ما تكون ضد هذا الرأس فإنك في مواجهة مفتوحة مع كل الأجهزة كالقبيلة والجهة والعرق والشركة والدولة بالطبع، وحتى مع الجانب الرسمي في المؤسسة الدينية.. فقد تصدر فتوى بكفرك وقد تنعت بأبشع النعوت من على منبر الجمعة.
وسيكون أقل الأجهزة المحاربة لك شأنا جهاز عسكري وأمني واستخباراتي يعرف كيف يخطط وينفذ ويمتلك كل مفاتيح اللعب التي تلعب في هذا المنكب البرزخي، وما إخراج مسرحية ثورة الجياع سنة 2008 منا ببعيد .
إن التأييد والمباركة لمن وصل إلى سدة السلطة وأمسك بتلابيب مفاصلها لا يعبر عن أي شيء ولا يعطي انطباعا عن مستوى التأييد الحقيقي، وإن فوز أي حزب تتبناه الدولة وتحيطه بهالة رعايتها أمر مفروغ منه؛ لكن عليه أن يحافظ على تلك الدولة فعندما تزول دولة الحزب يتحول الذين كانوا بالأمس يبعثون الناس من قبورهم لينتسبوا إليه إلى متشفين في حاله يصبون عليه اللعنات.
حقيقة مرة نعيشها اليوم وليس للمرة الأولى للأسف الشديد.. لذلك وبعد أن كشفت الأوراق وعادت الدولة إلى سيرتها الأولى تنافس كطرف على كل الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتستخدم في سبيل ذلك كل الأوراق المحرمة والمكروهة أحرى المباحة.. بات من المألوف أن نتفرج على الجميع، وهم يتسابقون لخطب ود “الدولة الحزب” أو “الحزب الدولة” في عدْو لا ينقطع وهم يتصايحون “ويل أمك يا الوراني”.