أمام الكم الهائل والمهمل من الدراسات والمؤلفات العلمية الرصينة حول قضيتنا الفلسطينية، وأمام الطلاق البين بين القرار و العلم وبين الثقافة والسياسة في عالمنا العربي والإسلامي، يفقد المرء شهوة الحديث والتنظير ويصبح الكلام لا حكمة فيه.
مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام
أو: كما قال الشاعر صادقا
هذا زمان القرود فكن لها سامعا ومطيعا
لكن سفن الحرية أبت إلا أن تكسر مرة أخرى أسطورة القرود ، مما جدد العزم ودفعنا للمشاركة برأي نرجو أن يكون لدينا من الكفاءة الأدبية والنضج السياسي ما يجعله واضحا ومفيدا ، مهمة هذا المقال أن يساهم بصياغة رزمة من الاقتراحات العقلانية والعملية المساعدة للأمة في الخروج من مأزقها .
إن أزمة العرب والمسلمين اليوم مع الكيان الصهيوني الغاصب ليست أزمة بسيطة و جزئية ،سياسية أو اقتصادية أو أمنية – كما أصبحت تصورها وسائل الإعلام ، وكما يريد ويحلو للبعض منهم ومنا – والدليل على هذا هو تلك الخطط والسياسات الممنهجة لإغراقنا في التفاصيل ، الحدود، المياه، اللاجئين، الأسرى (الرهائن)، القدس الشرقية، القدس الغربية ، السيادة الكاملة، السيادة فوق الأرض، تحت الأرض .،قتل هنا تدمير هنا، قصف هنا، كلها تفاصيل جزئية الهدف منها صرف الإنسان الفلسطيني والمسلم عن القضية الكلية والأصلية التي هي قضية احتلال ، فكل تلك التفاصيل اليومية والجزئية يجب النظر إليها كنتيجة طبيعية لمأساة الاحتلال الكبرى ، وبالرغم من أهميتها وأهمية الردود والتدابير الآنية ، إلا أنه لا يمكن أن نؤمل من كل ذلك المسلسل سوى امتصاص قوتنا وغضبنا دون التأثير بشكل حاسم في المجرى العام للقضية رغم أهمية المجاهدة اليومية والتوثيق والتراكم والاستمرار .
السؤال المركزي في اعتقادي هو كيف نتخذ من هذا الحدث ومن هذه اللحظة التاريخية مناسبة لتطوير رؤية عامة ومتبصرة ومحكمة ذات عناصر وجوانب سياسية واقتصادية وأمنية وعسكرية وثقافية وإعلامية ودبلوماسية؟ يساهم الجميع رسميين ومواطنين في صياغتها وتنفيذها؛ تتخذ من موضوع التحرير هدفا وغاية. هدف هذه الرؤية (المخطط) هو مواجهة الاحتلال ، وإعادة ترتيب أولوياتنا كأمة على أساس القضية التي هي قضية مؤثرة في العالم أجمع وليس في المسلمين فحسب ،وإعادة تعريف مصالحنا على هذا المنطق . فننشر ونذيع رؤية محكمة تنمي قدرتنا على المواجهة والتحرير وتكسب الأصدقاء للقضية وتبني وتوسع التحالفات ،رؤية ذات خطاب شرعي وقانوني وإنساني مؤثر يعرف كيف يخاطب الذات والأمم والشعوب والمنظمات والهيآت ، وهو خطاب تدعمه قوة ذاتية قوية -“تدعيم الداخل” – ومتسلح بوسائل وعلوم ومعارف وفرص العصر .
وهو خطاب عميق غير سطحي ولا اختزالي يدرك طبيعة الصراع ومستوياته وعالميته وأحجام المتدخلين ومستوى المصالح والاستراتجيات المتعلقة به ، وهذه السمات المتعلقة بالصراع هي ما يجعل من الحلول بل والتصورات المجردة له معقدة جدا ، ولهذا لا بد من آليات وتصورات ترقى إلى مستوى القضية ، وهذا الخطاب والمقاربة الجديدة التي ندعو لها هنا لابد أن ينظر لها ويتم تنفيذها من قبل قادة سياسيين ذوي ذكاء وخبرة ، وعلماء ومفكرين استراتيجيين ، والاهم إضافة للذكاء والخبرة والعلم هو الانتماء الحقيقي والمخلص لهذه القضية ، وقبل الخوض في بعض الآليات المؤسسية والمضامين الفكرية والسياسية والعملية التي نقترحها هنا ، لابد من صوغ ملاحظات عامة عن الأزمة وعن أداء ورؤى أطراف الصراع ، فهذه الأزمة هي أزمة تاريخية عميقة ومركبة لا يرى ولا يدرك آثارها الحقيقة ومداها وحدودها إلا الراسخون في النظر والفكر وإعمال العقل ومن هم على مستوى فلسفة التاريخ . وهذه الطبيعة الاستثنائية لهذا المأزق الذي نمر به والذي كلفنا الدماء والمقدسات . هو ما يجعل الإنسان حيرانا ، كيف ينظر للعلاج وللتعاطي مع أزمة هي من الأزمات والمحن الكبرى في التاريخ الإنساني والتي تمثل ابتلاء حقيقيا واختبارا لإرادة البشرية وحكمتها وتصميمها في تعاطيها مع غريزة الجشع والتدمير المستوطنة للنفس الصهيونية ، إنها أزمة للتعاطي معها بجدوائية وبشكل مدروس لابد من حشد طاقاتنا الفهمية والبشرية والمادية، واستحضار ونقد تجربتنا التاريخية القديمة والمعاصرة لنستشرف مستقبل صراعنا مع هذا العدو الذي صراعنا معه يتسم بطبيعته الحدية؛ فهو صراع وجودي وعقدي كما أجمعت تيارات الأمة.إن إطلاق كل التوصيفات والتعابير اللغوية والسياسية لهذا الاحتلال والاستيطان والاستدمار لا تجدي نفعا ،فوضوح حقيقته العدوانية والإرهابية والتخريبية غطت على قدرتنا على وصف الواقع ، ومما يجعل الأزمة مضاعفة هو أننا أمام عدو غير تقليدي يعمل ويخطط وينفذ لترسيخ كيانه المعتدي والغاصب ، بكل أفراده وشرائحه وأجهزته الكل يعمل لقضية واحدة ولهدف واحد لا يمكن الاختلاف حوله ،وإن تعددت السبل والوسائل ، أما نحن – للأسف – فإننا سادرون فيما يعرفه الجميع ،فبأسئلة بسيطة وكاشفة نتساءل ما الذي قامت وتقوم به حكوماتنا ومنظماتنا وأحزابنا وجمعياتنا بل وأفرادنا … من العمل على مستوى التنظيم والتخطيط والتنفيذ من اجل القضية؟ من الواضح أن هناك “أزمة دور” تصيب الدول والنخب والأفراد في وطننا العربي والإسلامي ، أليس غريبا أن تحافظ النخب الصهيونية على وحدة هدفها ووضوح غاياتها ، رغم ضعف وتآكل الأسس التي يقوم عليها مشروعها الاستعماري ، ويختلف كثير من حكامنا وكثير من نخبنا الوطنية ليس على الوسائل فحسب بل خلاف لحق بغايات الصراع . لقد أصبح من الواضح أن السياسات العربية والإسلامية الرسمية – في أغلبها – تفتقد الحد الأدنى من التنسيق والتكامل ، وهي أسيرة مثلث العجز والتفرق والاستسلام – إذا ما استثنينا الموقف التركي في هذه اللحظة التاريخية والذي سيحتاج لكثير من المساندة والدعم في المستقبل ليحافظ ويستمر على هذا النهج – لهذا نشهد الآن تجدد مسؤولية كل جيل وكل حكومة بل وكل فرد في التفكير والعمل واقتناص الفرص السانحة للتخلص من الاحتلال الصهيوني. وليس من مهام هذه المحاولة حصر الأسباب الداعية لهذا التجدد في المسؤولية ، كما لن أجهد نفسي في إعادة الحديث وتكرار وتعداد الأسس والأدلة الدينية والتاريخية والجغرافية الدالة على حقوقنا في هذه الأرض وحيازتنا لها؛ فالقضية ليست هنا ، القضية باختصار هي أن هناك معاناة من الظلم والقتل والإبادة والتعذيب والتجويع والسجن والحصار، يعاني منها إخوة لنا في الدين والقومية والأرض والإنسانية .آن لها أن تنتهي، وكل الشرائع والقوانين والأعراف واضحة جدا في رفضها للعدوان والاحتلال والظلم الواقع على فلسطين؛ ولم يبق إلا البحث في السبل العملية لتحكيم وتنفيذ منطق الحق. ولهذا نعتقد أن اللحظة التي نمر بها مدعاة التوقف قليلا والتأمل للالتقاط الأنفاس فهي بمثابة لحظة ” متحرفا لقتال “؛ إنها وقفة تقييمية لأداء الأمة بكل مكوناتها ؛ وبلغة أخرى نحن نمر بلحظة تاريخية حرجة من أولى استحقاقاتها “إعادة هيكلة للأمة” لتحقيق النصر واسترداد حقها ، ونحن هنا نشدد على رسم خطة ووضع رؤية تتسم بالشمول والاستيعاب ، لقناعتنا الراسخة بأن النصر صناعة ، وهو عملية تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فلا بد من كثير من الإعداد والاستعداد ، ونحن هنا نورد معالم تمثل مبادئ عامة للتفكير ؛ فمن التخلف البين إدعاء قلم واحد القدرة على الحل أو امتلاك حقيقة مطلقة تمثل حلا أبديا لهذا الصراع ؛ ومدعاة هذا التوجه والتفكير هو حقيقة أن النهج والأسلوب الذي تنهجه الأمة اليوم في أغلبها شعوبا وحكومات لا يوصل إلى شيء – إذا استثنينا التضحية والمقاومة المسلحة والتي ترافقت أحيانا مع أخطاء سياسية – فالمثل الصيني الساذج حاضر هنا بقوة والذي فحواه أن تكرار نفس العمل يوصل لنفس النتيجة دوما ؛ فطريق ونهج التنديد والمراهنة على الآخر لحل قضية فلسطين نهج غير سديد، ورحم الله يوسف بن تاشفين حين قال لقائد الفرنجة “الجواب ما ترى لا ما تسمع “؛ فبعد مائة عام من الاحتلال ما أحوجنا لتقويم قوتنا الذاتية وتقييم طرائق وآليات عملنا .
وأول ما نقترحه هنا هو عقد مؤتمر إسلامي عالمي وهو مؤتمر مفتوح زمنا ومكانا من أجل فلسطين ويفتتح في مكة المكرمة في كنف المسجد الحرام شقيق المسجد الأقصى يجتمع فيه ممثلي الأمة من القادة السياسيين الرسميين ، والقادة العسكريين ،والقادة العلماء ، والمثقفين والأساتذة والأكاديميين والفاعلين الاقتصاديين والإعلاميين وممثلين شعبيين …على كلمة واحدة كيف نخطط ونعمل لتحرير فلسطين بعد خمسة وعشرين عاما؟ -(احتلونا مائة عام فالنعطي لأنفسنا ربع قرن من الإعداد) – وينتخب المؤتمر هيئة دائمة له يعهد إليها بتحريض الأمة وجمع أمرها وأن تجوب الدنيا لكسب أصدقاء للقضية وبناء التحالفات ، وهذه اللجنة تكون من الأمناء الذين لهم ضمير حي ووازع من الدين والأخلاق ولهم حزم وكتمان ، حتى يسري تيار التحرير من جديد ، ويعمل هذا المؤتمر ويخطط:
1- للمصالحة والمكاشفة بين الأمة و حكامها فلا بد من مصالحة وهدنة تاريخية لا تقف في وجه التغيير لكنها تعقلنه، وهي خطوة من شأنها التخفيف من الاحتقان الداخلي إذ تعيد لبعض الأنظمة شرعيتها المفقودة والمتآكلة وتجعل المجتمع السياسي الموازي شريكا معتبرا لخدمة القضية . ويستتبع هذا عزل كل أسباب الصراع بين الحكومات والفصائل والأحزاب … فيما يتعلق بقضية فلسطين.
2- ومن المهمات الجليلة لهذا المؤتمر أن يلجأ لمسح الطاولة والعودة بالتعاطي مع العدو إلى مربع الصفر ( والكيان الآن ويا للمفارقة أقل شأنا من أن يفتح حالة الحرب ) فتتم المقاطعة من جديد سياسيا واقتصاديا وأمنيا وإعلاميا حتى يتم عزله ومحاصرته .
3-الأمر الهام الآخر هو العمل على مراجعة نظامنا ومؤسساتنا القومية والإقليمية ،وإعادة تعريف مصالحنا وعلاقتنا مع الآخر على ضوء المسألة الفلسطينية . وفي هذا الصدد إقليميا نقترح إنشاء منظمة تحت مسمى ” المنظمة الدولية لتحرير فلسطين” – ونحن في غنى عن التذكير بالفشل الذي طال مؤسسات العمل العربي والإسلامي المشترك وكذا الأمم المتحدة، رغم الحيوية اللافتة للأمناء العامين لجامعة الدول العربية وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي – وهي منظمة عضويتها مفتوحة للجهات الرسمية والتي تساند الحق العربي والإسلامي ، وكذلك مفتوحة لجميع القوى الوطنية والقومية لكل الشعوب المناهضة للاحتلال .
وهذه المنظمة يجب أن تقوم لسببين الأول: فشل المنظمات الإقليمية والدولية في تحرير فلسطين ، والثاني: استجابة للتحولات والتغيرات التي حصلت في البيئة الإقليمية والدولية وعلى مستوى الصراع نفسه ، وتكون لها مواثيقها وهيآتها ومؤتمراتها وتعمل لخلق شرعية مضادة لما يعرف اليوم بالشرعية الدولية المنتحلة من طرف القوى الكبرى والتي تسيرها لخدمة مصالحها الخاصة.
4-كما أن من وظائف هذا المؤتمر الكبير وضع التصورات وإعداد الخطط التكاملية بين الدول العربية والإسلامية في مجالات التربية والتعليم والاقتصاد والإعلام والدبلوماسية … ومراجعة حتى العقيدة القتالية للجيوش .
وفي الأخير نعتقد بأن ما ذهبنا إليه هنا في هذه المحاولة هو جزء بسيط مما يجب القيام به ونعرف تلك العوائق والتحديات شبه البنيوية والتي يمكن أن تعيقه، ولكن لا سبيل للأمة طال الزمن أم قصر إلا الرجوع إلى ذاتها والعمل مجتمعة ومتصالحة، فالاحتلال هو احتلال للجميع وهو المسؤول الأول عن كثير مما نحن فيه من التناحر والتخلف. وحتى لا نتهم هنا بالأدلجة ونكران المسؤولية الخاصة نذكر القارئ بذلك الأثر البعيد للاحتلال على التنمية السياسية والاقتصادية في الوطن العربي والإسلامي.