[ “…خلافا لجميع الإجراءات القانونية المتبعة ومن دون أي محاكمة قانونية , بلادي ابتاعتني للولايات المتحدة كما لو كنت قطعة حلوى… ” “.. إن كنتم تريدون أن تسألوا عن أخباري , فأنا لا أعلم عنها شيئا أكثر منكم , لا أعرف ماهي تهمتي ولا أعرف لماذا جاؤوا بي إلي هنا , ولا ماذا ينوون بي , وتعلمون أن الظلم لا حدود له , وللأسف فإن الظلم قد بدأ أول ما بدأ من بلدي , فالله المستعان وعليه التكلان ..” ]
محمدو ولد صلاحي – غوانتانامو
يجمع الحقوقيون تقريبا علي أنه لو كان هناك اسم جسّد الظلم خلال السنوات القليلة الماضية فهو ” خليج غوانتانامو ” , فهو وصمة عار في جبين كل الصامتين عنه , وما جرى فيه يكتشف يوما بعد يوم ، وهو بحق ” كولاج العصر الحالي “(1). ويقبع ولد صلاحي في هذا السجن منذ حوالي تسع سنوات , تعرض فيها لأشكال فظيعة من التعذيب , تقول عنه منظمة العفو الدولية . وبالرغم من أنه لم يحتجز في منطقة نزاع مسلح فإن الحكومة الأمريكية تزعم بأنه ” ناشط هام في القاعدة “.
في 2005 قدّم محمدو التماسا إلي المحكمة لطلب الإفراج عنه لكونه محتجزا بصفة غير قانونية , وليس لدى الحكومة أي دليل يثبت إدانته , علقت قضيته مثلما علقت كل القضايا من خليج غوانتانامو . وفي 2009 وفي الدعوة المدنية رقم : OS – CV – 0569 قدمت الحكومـة إثباتاتها , وفي يومي 14 و 15 ديسمبر 2009 حضر صلاحي وقدم شهادته للمحكمة من خلال فيديو مباشر من غوانتانامو . وفي 22 مارس الماضي برأت المحكمة الأمريكية صلاحي , وطالبت علي لسان قاضيها السيد جيمس روبرتسون بالإفراج عنه استنادا إلي أن اعتقاله غير قانوني . وأخيرا حصل ما كان متوقعا , استأنفت الحكومة الأمريكية الحكم وعبرت عن مخاوفها من الإفراج عنه .
وقبل أن أشرع في الرد علي مخاوف الحكومة وتهمها المفترضة ضد صلاحي , فإنه لا يسعني إلا أن أقدم شهادة في حق الرجل وهي شهادة ألقي بها ربي ، إن محمدو أبعد ما يكون عن التطرف أو التشدد الديني , إنه شخص متواضع , كثير المزاح ، يحب العلم والتعلم ،شخص ذو كفاءات عالية شهد له بها القاصي والداني , كثير التلاوة لكتاب الله , وهو منفتح إلي أقصي الحدود , وكخلاصة فإنه يمكن القول وبكل تأكيد أن محمدو لا يمكن أن يشارك أو حتى يفكر بالمشاركة في تفجير يموت فيه النساء والأطفال . تقول مجلة ديرشبيكل الألمانية << ولد صلاحي شاب نحيف الجسم يشع منه ذكاء وأخلاق جيدة وحتى ضباط ال افبي آي و السي آي إي الذين استجوبوه في غوانتانامو و الأردن وأفغانستان كانوا منبهرين من سعة الفرق بين أخلاقه و أدبه العاليين و أعضاء القاعدة الآخرين الذين يتهم بالانتماء إليهم >> , وتنقل أيضا عن أحد المحققين الذين حققوا معه باستمرار قوله , وتصف الصحف الأمريكية والألمانية محمدو بأنه ” شخص عالمي ” .
تتهم الولايات المتحدة اليوم محمدو بأنه عضو في تنظيم القاعدة وأنه أقسم يمين الولاء لأسامة بن لادن , و بأنه ” مجند نشط ” حيث اكتتب بعضا من منفذي هجمات 11 سبتمبر ، وأنه دعم أنشطة ابن عمه الذي كان من بين مستشارين روحيين ل بن لادن , وأنه سعي لتنفيذ أوامر لتطوير قدرة القاعدة في الاتصالات السلكية واللاسلكية. و الملفت هنا أنهم أسقطوا عنه تهمته الرئيسية السابقة والتي بموجبها تم اعتقاله وترحيله وهي العضوية في ” مؤامرة الألفية ” (2) , ولكن لماذا ؟ أغلب الظن أن الحكومة الأمريكية إنما فعلت ذلك مرغمة بعد أن أقرت الحكومتين الكندية والألمانية أنه لا علاقة لمحمدو بهذه المؤامرة وأن رسام وصلاحي لا يعرفون بعضهم أبدا .
ولسوف ننظر الآن في مدي صحة هذه التهم :
1- عضوية في تنظيم القاعدة
تقول الولايات المتحدة إن محمدو سافر إلي أفغانستان سنة 1990 وأنه تدرب هناك في معسكر الفاروق علي مدي ستة أسابيع وأنه أقسم يمين الولاء لأسامة بن لادن . وسأفترض هنا أنه فعلا سافر إلي أفغانستان في تلك الفترة – مع أني لست متأكدا من ذلك – فهل السفر إلي أفغانستان يعد جريمة يعاقب عليها القانون ؟ الجواب بالطبع لا , ومن المعلوم أيضا أن التنظيم الجهادي يومها يختلف كلية عن تنظيم القاعدة نهاية التسعينات والذي أعلن حربه علي الولايات المتحدة . يقول محمدو إنه لم يتصل بتلك التنظيمات ” لأنه كان مشغولا بدراساته ” , ويصر أنه ” لم يقسم يمين الولاء لأسامة بن لادن ” , وبعد تخرجه عمل ليعيل عائلته , و يعترف الأمريكيون أنه لم يزر أفغانستان بعد تلك الفترة وهنا علي الحكومة الأمريكية أن تجيب : كيف لعضو مخلص في أي تنظيم أن يتخلي عنه كل هذه الفترة ؟ أما إذا كانت تريد أن تحاسب محمدو علي سفره الأول – المشكوك فيه أصلا – فإني أذكرها بالمادة 6 من البروتوكول الثاني الإضافي إلي اتفاقيات جنيف , في الفقرة (2- ج) .
2- التجنـــــيد
تدعي الحكومة أن صلاحي ليس فقط لم يقطع علاقاته بتنظيم القاعدة , بل كان ” مجند نشط ” للتنظيم من عام 1991 حتى مالا يقل عن 1999 , وتستدل علي ذلك بشهادة رمزي بن الشيبة والذي يعرف بأنه ” منسق عملية 9/11 ” , وبالرغم من أنه لا أحد سمع هذه الشهادة من رمزي سوي الأمريكيين أنفسهم فسأعتبرها كما لو أنها حقيقة مطلقة , وتقول هذه الرواية إن بن الشيبة واثنين من الطيارين زياد جراح ومروان الشيحي كانوا ينوون الرحيل من ألمانيا إلي الشيشان للمشاركة في الحرب ضد الروس , ولكن محمدو نصحهم بتغيير وجهتهم إلي أفغانستان, وذلك في لقاء جمعهم به في مدينة دويسبرغ في اكتو بر1999. أنكر محمدو مزاعم بن الشيبة هذه وأرسل رسالة يتحدي فيها أقواله ، وفي شهادته أمام المحكمة أكد صلاحي أنه لم يفعل أي شيء , وأنه لم يقنع أحدا بالسفر إلي أفغانستان بدلا من الشيشان ، وفي رده علي سؤال أحد المحققين عن مدى علمه بأحداث سبتمبر أو حتى تلميحات عن هذه الأحداث ؟ كان محمدو يجيب بالنفي وأجاب بكل قوة أنه لم يرسل الطيارين إلي أفغانستان . ويعتقد المحققون الألمان والذين حققوا مع السجينين (صلاحي وبن الشيبة ) أن مصدر معلومات صلاحي ربما يكون أوثق فأقاويل بن الشيبة لا تمت لبعضها بصلة . ولننظر في هذه الرواية من زاوية أخري , إن أمريكا تقول إن القاعدة بدأت التحضيرات بحوالي سنتين ونصف قبل أن تنفذ عملية 11 سبتمبر , والقاعدة نفسها أكدت ذلك ، ورمزي يقول في روايته هذه إنه وزملائه ذهبوا إلي أفغانستان في ديسمبر 1999 بناء علي نصيحة محمدو – كما أسلفنا – , وعليه فإن المنسق التحق بالقاعدة بعد تسعة أشهر من التحضير للعملية ؟ وبعبارة أخري هل يعقل أن منسق العملية ومبرمجها ، لم يحضر إلا حوالي عشرين شهرا من التحضير من أصل ثلاثين شهرا ؟ وفي هذه الحالة من الذي كان ينسق قبله ؟ ولماذا تنازل له عن هذه المهمة ؟ و……و. ثم إني لا أعتقد أن تنظيم القاعدة من السذاجة بمكان حتى ينصب شبابا جددا عليه في مراكز قيادية كهذه بمجرد انضمامهم إليه ! وهو المطارد من قبل جميع مخابرات العالم حتى في ذلك الوقت !! . ومن هنا تمكن الملاحظة وبدون كبير جهد أن تصريحات بن الشيبة تبقي موضع شك , ولمعترض هنا أن يسأل ولكن ما الذي يجعل بن الشيبة يحكي خرافات ؟ والراجح لدي أن التعذيب كفيل بذلك .
3 – دعم نشاطات
يتهم الأمريكيون محمدو بأنه كانت له علاقات مع أحد رجال القاعدة بالخرطوم عاصمة السودان ,وأنه دعم نشاطاته و التقي به في نواكشوط سنة 1993 , و الرجل المذكور هو أبو حفص الموريتاني من أبناء عم محمدو وكان يشغل منصبا دينيا قياديا مهما في القاعدة . ومشكلة الأمريكيين أنهم يتخذون من حادث عادي دليلا غير عادي ,فإذا ما صحت هذه العلاقة بين محفوظ وصلاحي ، ألا يمكن أن تكون بوصفه ابن عمه وليس بوصفه رمزا في القاعدة ؟ ولماذا تتجاهل الولايات المتحدة هذا الاحتمال القوي ؟ , والأهم من كل هذا أن أمريكا تعلم أن تنظيم القاعدة لم يكن قد تأسس في تلك الفترة. ويبقي ادعاء هذه العلاقة مجرد تكهنات لا دليل عليها ، أما إذا أرادت الحكومة محاسبة محمدو علي أنشطة تتهم بها محفوظ ولد الوالد بوصفه ابن عمه وصديق طفولته ، فإن القانون لها بالمرصاد , فإنه ” لا تجوز إدانة أي شخص بجريمة إلا علي أساس المسئولية الجنائية الفردية ” (3)
4– المساعدة في تطوير الاتصالات السلكية واللاسلكية لتنظيم القاعدة
تقول الحكومة إن صلاحي عمل علي عدد من مشاريع الاتصالات السلكية واللاسلكية لتنظيم القاعدة وأن ابن عمه أبوحفص كلفه بإنشاء محطة في السودان تبث علي الموجات القصيرة الدولية (للعلم : صلاحي لم يزر السودان ) وأنه كلف أيضا بمشروع لتطوير الانترنت بين أفغانستان وباكستان . وتعتمد الحكومة علي استنتاجات محققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي ، وتؤكد أيضا أن صلاحي ” لديه معرفة متقدمة ما يلزم لإتمام هذه المهام ” وأن لديه ” خبرة متميزة في مجال الاتصالات ” , وتقول الولايات المتحدة إن كريستيان جانزارسكي (4) عاد إلي ألمانيا من أفغانستان حاملا رسالة تكليف لصلاحي بهذه المهام ” وأعطاه جوازات سفر كمساعدة في المهمة ” ويعلق القاضي السيد روبرتسون علي هذه الفقرة قائلا !! . نفي صلاحي أي علم له بهذه المشاريع , وأكد أنه لم يتلقي أي رسالة من القاعدة . ويعتقد الأمريكيون أن الصفحة الشخصية لمحمدو علي الانترنت ربما كانت تستخدم كوسيلة لتناقل الأخبار بين أشخاص متطرفين حول العالم , وهذا أيضا لا دليل عليه وغير مؤكد منه كما يقول السويسري كيدو رودولف من مؤسسة إنترنت ددكتاي نتمون التي فتشت موقع محمدو الالكتروني . إنه علي الولايات المتحدة أن تبحث عن دليل أكثر ملائمة للمنطق , فكون محمدو” لديه معرفة ما يلزم لإتمام هذه المهام ” ليس بالضرورة دليلا يثبت إدانته , ويعد هذا أغرب دليل لدي الأمريكيين !.
والحقيقة أن كل هذه الاتهامات باطلة , ولا ترقي أن تكون دليل إدانة , والقاضي السيد جيمس روبرتسون قال في حيثيات حكم الإفراج عن محمدو وقال . والسؤال الذي طالما طرح نفسه ويطرحها الآن بقوة إلي متى سيدفع محمدو ثمن ذنوب لم يقترفها وهو منها براء ؟ ومتى ستقر الولايات المتحدة ببراءته حيث عجزت طوال كل هذه السنين عن إدانته أو حتى تبرير التهم الموجهة إليه ؟ , ولا أخفي أحدا أني في ذروة التشاؤم ولا أستبعد أن يبتكروا أدلة جديدة كلما أحسوا بضعف الأدلة السابقة. وهذا لعمرك ظلم ما بعده ظلم. إن القضاء الموريتاني أصدر مذكرة تفيد بأن ملف محمدو خال من أي نشاطات غير شرعية علي الأراضي الموريتانية , وأصدر القضاء الألماني مذكرة تفيد الشيء ذاته علي الأراضي الألمانية (5) , ويؤكد مسؤولون ألمان أنه لا توجد ثغرة في فترة حياته في ألمانيا يمكن النفوذ منها واتهامه . وعلي الحكومة الأمريكية أن تطرح علي نفسها هذا السؤال: أين كان صلاحي يمارس أنشطته ؟ هل علي سطح القمر مثلا ؟!.
بعد أسابيع أو ربما أشهر ستكون القضية صلاحي ضد أوباما أمام محكمة الاستئناف , سيسعي الادعاء إلي إدانته , وسيسعي الدفاع إلي تبرئته والإفراج عنه , ولا تزال الحكومة الموريتانية تقف موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيها في شيء , إنه آن الأوان كي تدخل حكومتنا علي الخط وتبذل جهودا ملموسة للإفراج عن مواطنيها : أحمد ولد عبد العزيز و محمد ولد صلاحي , إن هيبة الدولة تكمن في اهتمامها بمواطنيها مما يرفع من قدرها في قلوبهم والعالم كله , فكم يحس المرء بالاعتزاز عندما يعلم أن له وطنا يدافع عنه ويحميه من الظلم , وكم يحس بالذل وخيبة الأمل عندما يري وطنه يوزع أبنائه علي أول من يتهمهم , ويتخلي عنهم في ظروف بالغة القسوة , إن وطنا كهذا والله يسأمه العالم كله ويستحيي أي من أبنائه أن يصرح بانتمائه له . وأنا هنا لا أطالب بأكثر من حق مواطنينا محمدو و ولد عبد العزيز كابنين من أبناء الدولة يجب عليها حمايتهما والذود عنهما كما تفعل كل الدول بحق أبنائها , ثم قل لي بربك أليس حري بنا كدولة أن نبحث عن أبائنا ونسأل عنهم وننصفهم ظالمين فأحرى إن كانوا مظلومين ؟ هل من المعقول أن تحفظ الدول الأخرى كرامة رعاياها , في حين نبقي نحن مكتوفي الأيدي تجاه ظلم صريح يمارس بحق أبائنا ؟ , إن اعتقال صلاحي و ولد عبد العزيز خسارة لموريتانيا كلها وليس لعائلتيهما فقط وهما اليوم يحتاجان المساعدة أكثر من أي وقت مضي , وقد أكد المحامون مرارا أن تدخل الدولة في مثل هذه الأمور يلعب دورا حاسما , لذا فإنه يتحتم علي الحكومة الحالية أن تتخذ موقفا شجاعا في هذه القضية . وأخيرا أذكر الحكومة أنه تزامنا مع محاكمة صلاحي , ستعرض أعمالها أمام محكمة أخري هي محكمة الشعب و التاريخ . وفي الختام فإني لم أجد أفضل من الفقرتين التاليتين (نقلا عن ديرشبيكل الألمانية ) كتعبير موجز عن ما أردت قوله في هذا المقال :
.
الهوامــــــــــش
(1) هو سجن أو معسكر اعتقال السياسيين إبان العهد السوفيتي , ويعمق فكرة إمكانية اعتقال الناس من دون رجوع للقانون .
(2) هي مؤامرة مزعومة لتفجير مطار لوس أنجلس الدولي ومواقع أخري في الشرق الأوسط في 31 ديسمبر 1999 وكان يقودها جزائري يدعي أحمد رسام .
(3) المادة 6 من البروتوكول الثاني الإضافي إلي اتفاقيات جنيف .
(4) هو مواطن ألماني دخل الإسلام ويسمي إبراهيم , ويتهم بأنه مدبر تفجير جربة بتونس سنة 2003.
(5) أسرة صلاحي مدينة للصليب الأحمر الألماني حيث كان له الدور الكبير في إخراج هذه المذكرة إلي حيز الوجود .