أ. محمد الامين ولد الكتاب
لعل الطريقة المثلى لملامسة هذا الموضوع تتمثل في تحديد المفاهيم الأساسية التي تشكل لحمته بهدف إسقاط تلك المحددات على السياق الموريتاني.
وهذه المفاهيم التي يجدر تحديدها وضبط إحاءاتها وإحالاتها هي : “البطولة”، “المقاومة”، “الرمز” و “الاستقلال”.
فدعونا نمعن النظر في كل من هذه المفاهيم لنتبين مدى إمكانية التحدث عنها في سياقنا الوطني. ولنبدأ بمفهوم “البطولة”، وهو يحيل إلى الشجاعة والإقدام وتحمل المشاق والاستماتة والاستعداد للتضحية بالمال وبالحياة من أجل قضية معينة وللدفاع عن مثل ومبادئ وقيم وللذود عن الأهل والذمار والوطن. ومن ثم فإن الأبطال هم الأشخاص الذين عرضوا أنفسهم للمشاق والمكابدة والأخطار الجسام دفاعا عن قيمهم وأوطانهم.
أما مفهوم “المقومة” فيحيل إلى الرفض والممانعة والإباء عن الخضوع والاستكانة، فهو الوقوف في وجه الاستحواذ والسيطرة والإخضاع والاستتباع. و”المقاومة” هي إثبات الذات والحفاظ على الوجود في وجه محاولات الاجتياح والهيمنة وتكتسي المقاومة أبعادا روحية وثقافية وسياسية واقتصادية وحضارية.
أما مفهوم “الرمز” فإنه يحيل إلى تلازم وتعالق بين عنصرين بحيث يستدعي أحدهم الآخر إلى الأذهان فالرمز هو الممثل والصورة الدالة والعنوان الذي يلخص ويختزل ظاهرة أو وضعية بعينها.
ومفهوم الاستقلال يحيل إلى حالة التحرر والانعتاق والتمتع بالسيادة وامتلاك حرية القرار.
فمن هذا المنطلق واعتبارا لهذه التوصيفات فهل كان هناك أبطال مقاومة موريتانيون وهل حصلت مقاومة في البلاد وهل توفر لنا رموز يرتبطون في مخيلتنا العامة بالاستقلال ؟ وهل كان استقلالنا استقلالا حقيقيا أم كان مجرد اختفاء الملامح الظاهرة للاستعمار دون المساس بالجوهر ؟
هذه تساؤلات قد يكون من المفيد مقاربة الموضوع على ضوئها.
الواقع أن موريتانيا قد عرفت منذ مطلع القرن العشرين احتلالا استعماريا من قبل فرنسا وقد تم هذا الاحتلال بشكل تدريجي وقد كان في بدايته سلميا بل إنه حظي بقبول بعض السلطات السياسية ومباركة بعض المرجعيات الدينية التي رأت فيه مخرجا وخلاصا من الفوضى والسيبة التي كانت تعاني منها البلاد.
إلا أن الشعب الموريتاني في سواده الأعظم رأى في الاستعمار الفرنسي خطرا يتهدد دينه وهويته الثقافية وخصوصيته الحضارية فرفض التعامل معه وواجه تواجده بمقاومة مستميتة اكتست شكلين اثنين :
ـ شكل سلبي : تمثل في الفرار من الاستعمار والامتناع عن التعامل معه فهاجر العديد من الموريتانيين إلى بلدان المغرب العربي والشرق الأوسط وكان من بين المهاجرين الداعين إلى الهجرة الشيخ محمد الأمين القلقمي الذي خرج من موريتانيا مع العديد من الأسر سنة 1903. حيث استقر بقرية أباري قرب فزان بليبيا وبعد ذلك انتقل إلى شرقي الأردن ثم إلى تركيا حيث جاهد ضد الانكليز وبقي بتركيا إلى أن توفي سنة 1969.
كما اكتست المقاومة السلبية الامتناع عن ولوج المدارس الفرنسية وقبول لغة وثقافة المستعمر.
أما الشكل الثاني من المقومة فكان شكلا هجوميا جهاديا ورغم أنه كان يفتقر إلى تصور واضح لنسق سياسي واجتماعي ومشروع مجتمع تسعى المقاومة إلى إحلاله محل النسق الإداري والسياسي الذي فرضته السلطات الاستعمارية إلا أنه كان يستشعر خطر الاستعمار على نمط الحياة التقليدي وعلى الخصوصية الثقافية وعلى القيم الدينية.
إن الشعور الأساسي الذي كان يذكي روح المقاومة عند الموريتانيين هو الخوف على الدين الإسلامي وكراهية النصارى الكفار وعدم الارتياح إلى نواياهم ومخططاتهم.
ومن هنا كانت المقاومة التي اعتمدها الموريتانيون ضد الاستعمار الفرنسي مقاومة دينية وثقافية أكثر منها مقاومة سياسية ومؤسسية وحضارية.
وفي هذا الإطار يدخل الصراع والاحتراب والمواجهات التي وقعت منذو أواخر القرن التاسع عشر بين طلائع الغزو الفرنسي والحاج عمر بن سعيد الفوتي والساموري تورى وتلك التي قيم بها ضده منذ بداية القرن العشرين إلى نهاية الثلاثينيات منه والتي قادها العديد من المقاومين الموريتانيين مثل : الشيخ حماه الله والشيخ ما العينين وأبناؤه وبكار ولد سويد احمد وسيدي ولد بناهي ووجاهة وسيدي ولد مولاي الزين وغيرهم كثير.
وقد أبلى هؤلاء المقاومون بلاء حسنا في مجابهة السلطات الاستعمارية وجيوشها ومن هنا فإنه يمكن القول أن موريتانيا أفرزت مقاومة حقيقية ضد الاستعمار الفرنسي وقد خلقت هذه المقاومة أبطالا تنطبق عليهم المواصفات التي أومأنا إليها في ما تقدم.
وبخصوص استقلال البلاد ووجود رموز معروفة لهذا الاستقلال فقد لا يجافي الصواب من قال إن الاستقلال السياسي الذي حصلت عليه البلاد سنة 1960 كان استقلالا موهوبا من قبل فرنسا ضمن استراتيجية سياسية عامة املتها على هذه الدولة المستعمرة عوامل خارجية واعتبارات جيو سياسية لم يكن هناك بد من النزول عند مقتضياتها.
ورغم أن الكلام عن رموز الاستقلال لا يكون ذا مدلول إلا إذا كان الاستقلال منتزعا عن طريق حرب تحررية وأثر تضحيات جسيمة فإن من الممكن أن نعتبر أن لنا رموزا تقترن في ذاكرتنا العامة بمجيء الاستقلال وأيامه الأولى ومن هذه الرموز الرئيس السابق المرحوم المختار ولد داداه وحمدي ولد مكناس وسيدي محمد جاكانا وبياكي ولد عابدين وسيدي محمد للديين وغيرهم… رحمهم الله أجمعين.
وربما يكون حزب النهضة وشبيبتها التي نشطت قبيل إعلان الاستقلال وبعد ذلك الاعلان مباشرة، ربما يكون ذلك الحزب رمزا لتوجه سياسي معين ولمشروع مجتمع محدد شكل حلما لبعض الموريتانيين ونسقا سياسيا طمحوا إلى تجسيده على أرض الواقع.
كما أنه يمكن القول في هذا الصدد أن فترة السبعينيات التي عرفت غليانا سياسيا واجتماعيا أفرزت تيارات اديولوجية ومرجعيات فلسفية مهدت لقيام نضال سياسي يناوؤ الاستعمار الجديد ويدعوا إلى التحرر السياسي والاستقلال الاقتصادي والانعتاق الاجتماعي والثقافي وينادي بإثبات الهوية وبإعادة امتلاك التراث الفكري والروحي للبلاد. يمكن القول بهذا الصدد أن رموزا وطنية أفرزتها التيارات الفكرية التي عرفتها الساحة الوطنية قد برزت إلى حيز الوجود نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر احمدو ولد عبد القادر ومحمد يحظيه ولد بريد الليل ومحمدن ولد إشدو.. وغيرهم ممن كرسوا أعواما من حياتهم للنضال من أجل مجيء دولة موريتانية حرة ومزدهرة.
ومجمل ما يمكن قوله بخصوص هذا الموضوع هو ان لموريتانيا أبطالا أفذاذا قادوا مقاومة مريرة مستميتة ضد الاستعمار الفرنسي، وأن فترة مخاض الاستقلال والحقبة التي تلته وما قادت إليه من حراك سياسي قد أفرزت رموزا لعلها جديرة بعناية واهتمام الأجيال اللاحقة.