طبيب بمستشفى الشيخ زايد بنواكشوط
القضية الفلسطينية بطبيعة الحال قضية يجمع العرب على مركزيتها بالنسبة لهم، كما أن قدسيتها بالنسبة للمسلمين ليست محل نقاش. وهي في موريتانيا هم يحمله المواطن ويعتبر أنه المعني به مع غيره أو دونه، وهي تمثل رمزية واضحة وشرطا فعليا من شروط الانتماء لهذا الوطن، وهي القبة الوحيدة التي ظلت دائما تجمع كل الأطياف السياسية منذ ما قبل نشأة الدولة وحتى اليوم .
وتعلق الموريتانيين بالقدس خصوصا وفلسطين عموما جزء من تعلقهم بالدين والثوابت والحقوق والقيم الفاضلة.وقد حرص الكثيرون من أبناء البلد قديما علي زيارة القدس وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، ومن الأمثلة على ما دون من زيارات المشاهير ما عرف عن العلامة الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي الذي زار عدة مواقع فلسطينية صحبة الملك المغربي محمد الخامس قادمين من بلاد الحجاز على عادة المغاربة قديما في التقديس بعد الحج، وكذلك قاضي قضاة الأردن العلامة الشنقيطي محمد الامين ولد احمد مايابى الذي تردد علي الربوع الفلسطينية غير ما مرة، وممن قدّس من علماء موريتانيا المتأخرين العلامة محمد عالي بن فتى رحمه الله، وكان ذلك طبعا في عهد الانتداب البريطاني.
ويذكر السفير الفلسطيني الحالي أن إخوة من بلاد شنقيط قدموا للمساهمة في دحر الغزاة.ويفيدنا الأستاذ المحامي محمدن ولد أشدو أن تفاعل الشناقطة المنظم مع الوضع في فلسطين ظهر مبكرا مع إنشاء الدولة فخرجت أول مسيرة ضد الكيان الصهيوني بعد مضي ثلاث سنوات فقط من استقلال البلد. ومع إنشاء السلطة الفلسطينية وتسلمها لبعض المعابر قدم إلي غزة أكبر وأول وفد شعبي موريتاني من حيث العدد وكان الوفد برآسة رئيس تحرير مجلة الأمة الوسط محمد الأمين بن أمدن ممثلا للتجمع الثقافي الإسلامي (الجهة المنظمة لهذه الرحلة )وقد شارك الوفد في مسابقة دولية لحفظ وتجويد القرآن نظمت في غزة حصلت موريتانيا من خلاله فيها على المركزين الثاني والخامس .
وقبل فترة وجيزة تشرفت بلاد شنقيط بتمثيلها في أسطول الحرية الذي جمع صفوة من أحرار العالم في مشهد رائع ليسطروا إحدى أروع صفحات النضال البشري ضد السياسات الهمجية ذات الطابع التجويعي والاجتثاثي .ونقف هنا لنحيى الشيخ المجاهد صاحب المواقف النبيلة محمد غلام ولد الحاج الشيخ الذي ترجم أقواله بالأفعال كما نطأطئ الرأس إجلالا للصحفي الوفي محمد فال ولد بوخوصه الذي أسعدنا كثيرا كعادته وأدعو إلى تكريمهما بما يتناسب ومجهودهما وما له من وقع في نفوس الشناقطة، بالرغم من أن أشقاءنا سبقونا لذلك وذلك بمنحهم الجنسية الفلسطينية للمعنيين وهو شرف لهما نهنئهما عليه .
فالموريتانيون يعتبرون مناصرة القضية الفلسطينية أهم مبرر للتكريم ويتجلى ذلك مثلا في تكريم رئيس الوزراء التركي الدكتور طيب رجب أردوغان من طرف الرباط الوطني لنصرة فلسطين باعتباره أهم شخصية ناصرت القضية الفلسطينية في الوقت الحاضر وكان التكريم المستحق اعتماد علي استفتاء أجرته الجهة المكرمة. وقد تجدد هذا التكريم بمناسبة انعقاد مؤتمر علماء إفريقيا الأول الذي نظم في دكار أيام 7-9 يونيو 2010، وهو المؤتمر الذي تولى الشيخ محمد الحافظ النحوي رئاسة لجنته التحضيرية الدولية، وشارك في أعماله عشرات العلماء من موريتانيا.
ولا يمكننا نحن في موريتانيا أن ننكر ما نعانيه من سوء الظروف المادية التي تعوقنا عن بذل الكثير من الجهود المادية التي نعتبر أننا ملزمون بها تماما مثل إخواننا الآخرين، كما أن العائق الجغرافي مثل حاجزا يصعب تجاوزه هو الآخر ، لكن شعبنا يحمل الهم الفلسطيني بين جنبيه ويستوعب القضية مثلما يستوعبها المجاهدون الفلسطينيون ويؤمن جميع أبناء المرابطين بالقضية كما يؤمن بها المخلصون المرابطون حول بيت المقدس، وإن كان الأغنياء منا مطالبين ببذل جهد لم يبذلوه لحد الآن بالقدر المطلوب.
ونحن كغيرنا من الشعوب الاسلامية والمكافحة نقدر الفلسطينيين أكثر من غيرهم لذودهم المستمر عن الأقصي وباقي الأرض المحتلة وعن ذلك يقول رئيس الرباط الوطني للدفاع عن فلسطين والعراق المجاهد محمد غلام ولد الحاج الشيخ مخاطبا وفدا من العلماء الفلسطينيين “والله لو تنازلتم عن القضية الفلسطينية ما تنازلنا ولا وجدتم عندنا ذرة من التعاطف أو المحبة”.
ونحن نعتبر أن نكبتنا في القدس هي مصدر جل نكبات العالم وأهم أسباب عدم استقراره وهي جوهر الصراع القائم اليوم بين الخير والشر ويحرص الموريتانيون في الداخل والخارج علي طرحها بصورة صحيحة للذين تلقوها بصورة مشوهة ، كما أن الموريتانيين رغم الفاقة وشدة الاحتياج يحرصون على الإسهام في أداء بعض الواجب تجاه إخوانهم في فلسطين المحتلة ومن صوره الجلية تبرع أحد المعوقين بعكازيه لصالح نصرة القضية المركزية .ويشهد الكثيرون على قصة الفتى البطل المرحوم الزايد ولد الخطاط العامل في مخبر المستشفي الوطني بانواكشوط حين صفع علي الوجه الطبيب الصهيوني ابريت روز مبلات الذي دنس البلاد بأقدامه بحجج إنسانية صيف 1999 ليخاطبه المجاهد قائلا :” المرض أحب إلينا من رؤية وجهك” وقد زاد الزائد من إصرار هذا الشعب على مقاومة التطبيع وأعلن الموت المبكر لمحاولة التطبيع، ليجد بعدها وفد من الكنيست الإسرائيلية في مدينة شنقيط الأبية تصرفا يصب في نفس الاتجاه حين منع الأهالي الوفد من دخول المنازل والمكاتب ورفض السكان فتح المكتبات الأهلية التي لم تغلق يوما دون أي كان وأصر السكان على قرارهم رغم الضغط الحكومي والتعاون السياسي بين الحكومتين في تلك الفترة . كما نجح طلاب جامعة انواكشوط نتيجة لاحتجاجات قادوها من ساحة الشهيد محمد الدرة ضد زيارة قام بها وزير خارجية العدو إلى أرض المنارة والرباط في تقليص مدة الزيارة من يومين إلى ربع يوم تحول المشهد فيه من احتفاء إلى حظر تجوال ،وفي مناسبة قريبة زمنيا رفض أحد الشعراء وهو مولاي عبد الله استلام جائزته بعد فوزه في مسابقة أدبية نظمتها الوزارة المعنية ليعلل رفضه بحضور سفير دولة العدو حفل التسليم ، ليمنحه إياها الرباط الوطني لمقاومة التطبيع مضاعفة في حفل آخر نظم لاحقا كما وجه الشهم العابد ابراهيم ولد محمد محمود لطمة مهمة لمشروع التطبيع حين رفض تحويله الي الكيان المغتصب مفضلا البطالة علي عمل كهذا . و في وقت لاحق دعا المفكر والمؤرخ الموريتاني الشيخ الخليل النحوي إلي توأمة العلمين الفلسطيني والموريتاني وقد وجدت الفكرة صداها في الشارع وفي البيوت لتتبناها التلفزة الموريتانية وتظهرها علي الشاشة معظم أوقات البث .
وكثيرون جدا أولئك الذين سموا أبناءهم باسم السيد نصر الله لما يمثله هذا الرجل من رمزية للكفاح ضد الكيان الصهيوني .
وتبدو موريتانيا “بلد المليون شاعر” وكأنها لا تعترف بشعرائها إلا من خلال كتابتهم عن القضية الأم ، ومنهم من ربط الكتابة في بعض الفنون كالغزل مثلا بتحرير فلسطين وهو ما ذهب إليه الشاعر الشعبي حسني ولد الشاش .
ولا تختلف الطبقة السياسية عن غيرها في الإجماع على رفض المحتل ونصرة نداءات القدس ونستطرد هنا كمثال على ذلك جزءا من خطاب لرئيس البرلمان الموريتاني ورئيس حزب التحالف الشعبي الزعيم مسعود ولد بلخير حيث يقول :”نحن النواة الصلبة في الدفاع عن قضية فلسطين، سالت دماؤنا من أجلها ونحن الوحيدون الذين وقعوا مع الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بندا اسمه مراجعة العلاقات مع العدو الصهيوني “. ويشدد الدكتور عبد السلام ولد حرمه رئيس حزب الصواب علي أن فلسطين هي وحدها من يوحد ما تفرقه السياسة.
كما أجمع جميع المترشحين لرآسيات 2006 على ضرورة مراجعة العلاقات مع العدو الصهيوني وكان من بينهم الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي أعلن عزمه طرح موضوعها على البرلمان الموريتاني وهو ما يعني ضمان قطعها فور عرضها على التصويت .
وفي مطلع العام الموالي لانتخاب موريتانيا لرئيسها الجديد وقعت جميع الأحزاب السياسية بدءا بالحزب الحاكم عريضة طالبت بقطع العلاقة مع العدو وهو ما شكل خطوة مهمة في الضغط على السلطات الحكومية أو في إعطائها القوة المناسبة لإنهاء تلك العلاقة المشينة .وقد دخل الرئيس محمد ولد عبد العزيز التاريخ بقراره قطع العلاقة مع العدو وهو قرار يؤيده بقوة المعارضون قبل الموالين ويشكره عليه الجميع دون استثناء ..وعند الحديث عن العلاقة مع العدو يجدر بنا أن نشير إلي أن موريتانيا كانت آخر المطبعين وأول صارم للعلاقة مع الاسرائيليين .
وتثمينا للخطوة ولغيرها يتحدث الكاتب والصحفي الأردني الشهير أسعد الغزوني بإعجاب عن مواقف الشعب الموريتاني فيقول :” لو كان لدينا في الوطن العربي ثقافة البحث العلمي لدعوت المختصين من المحللين والباحثين من علماء النفس والمنطق وعلماء الأنساب والأصول كي يعقدوا ورش العمل للبحث في الظاهرة الموريتانية التي قلبت الموازين “ويصف رئيس رابطة علماء فلسطين في غزة الشيخ مروان أبو الراس موريتانيا بأنها فاقت بقطعها العلاقات مع اسرائيل الدول العربية الكبيرة والقريبة جغرافيا ، وفي تعليق يعبر عن رأي جريدة القدس العربي للدكتور عبد الباري عطوان نجد رأيا يتماشى في جوهره مع سابقه فيقول صاحبه: ” الشعب الموريتاني من أكثر الشعوب العربية التصاقا وتأييدا لقضايا الأمة العربية وفلسطين علي وجه الخصوص ولم يؤثر عامل الجغرافيا أي وجوده في أقصي المغرب علي مواقفه هذه . فكان واضحا في معارضته الغزو الامريكي للعراق وواضحا في رفضه للجرائم الاسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني”.
وإعجابا بالمقاومة الأدبية ضد التطبيع في بلادنا عنون الكاتب والشاعر الأردني سمير عطيه مقالا له ب : في موريتانيا يقاومون التطبيع بالقصيد ربط فيه بين دور القصيد وفشل زيارة وزير خارجية العدو الصهيوني اليتيمة والعقيمة والتي لا تزال لوحات رفضها قائمة حتى اليوم .
وقد سرد في مقاله أبياتا للشاعر والكاتب محمد فال ولد محمد حرمه كنموذج مؤثر من النمط الشعري الشنقيطي ذي الطابع النضالي .
وانبهارا من شدة حب الموريتانيين للفلسطينين وتعلقهم بهم يقول الدكتور لؤي عيسي السفير السابق لدولة فلسطين في انواكشوط ” والله لا أزايد ولا أتكلم في إطار دبلوماسي أو بمجاملة أنا أتساءل كيف تحتاج فلسطين إلى سفير في موريتانيا ولديها ثلاثة ملايين سفير ” إلى أن يقول أنا لا أريد العودة إلي التاريخ لأتحدث عن ولد حرمه ولا عن المختار ولد داداه أو ولد مكناس وكل هذه المفاصل التاريخية المضيئة من مسيرة موريتانيا مع القضية الفلسطينية، نحن دخلنا إفريقيا من بوابة موريتانيا ولم ندخل من أية بوابة عربية أخري ” ويتعرض الدكتور لؤي باعجاب في شهادته إلي رفض المختار ولد داداه – رحمه الله- للدخول في مقايضة للاعتراف بموريتانيا مقابل الاعتراف بالكيان الصهيوني،كما يتحدث عن تقديم النساء والشباب قوتهم اليومي في سبيل قضيتهم الكبرى فلسطين ، ويذكر أن الاحزاب السياسية لم يلتئم عقدها يوما إلا من أجل فلسطين وذلك لأن فلسطين أكبر من كل الخلافات مهما كانت .
أما سعادة السفير الحالي عدنان أبو الهيجاء فيذكر أنه شخصيا من طلب من أبو مازن تعيينه كسفير في بلاد شنقيط وذلك لشدة محبته وإعجابه بالموريتانيين الذين تعرف عليهم خارج بلادهم واصفا إياهم بالسفراء الحقيقيين لبلدهم ، وأشار في لقاء صحفي إلي انسحاب الزعيم السياسي أحمدو ولد حرمه ولد ببانه – رحمه الله- من جلسة البرلمان الفرنسي ومن الحزب الاشتراكي الفرنسي احتجاجا علي مناصرتهم للكيان الصهيوني كما سجل إشادته بقطع الرئيس الموريتاني لعلاقة موريتانيا بالولايات المتحدة الامريكية احتجاجا علي دعم العدو في حربه عام 1967 وكانت موريتانيا البلد الوحيد الذي قابل دعم العدو بهذا التصرف ، ويذهب إلى ما ذهب إليه سلفه من أن المختار هو من فتح القارة السمراء أمام القضية الفلسطينية ويصف قطع الرئيس محمد ولد عبد العزيز للعلاقات مع العدو بأنه يمثل تجسيدا للروح الوطنية والقومية في موريتانيا .
ونحن واثقون من أن العدو الصهيوني سيحاول التربص بوحدة البلد والعبث بمصالحه عقوبة له علي مواقف شعبه التي اطلع عليها عن قرب، وصدمته الكبيرة من قرار حكومته الحالية التي ربما مثلت له صدمة من العيار الثقيل .ولكن مواقف هذا الشعب غير قابلة للتغيير تحت أي ضغط أو تهديد والشعب الموريتاني كغيره من الشعوب العربية والإفريقية متقدم في مواقفه دائما علي قياداته ومع تثمينه لخطوة قطع العلاقات فهو يطالب اليوم بما هو أكثر من ذلك ، ألا وهو سحب الاعتراف بهذا الكيان .