الموجودة بخزائن دولة أسبانيا (1304هـ- 1887م)
جمع وتحقيق ومراجعة*
عبد الرحمان بلحاج علي
سفير الجمهورية التونسية بنواكشوط
[ المقدّمة]
الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فيقول الفقير إلى الله سبحانه وتعالى علي بن سالم الورداني التونسي: إنّه لما كان الاهتمام بشأن تقدّم العلوم والمعارف من أجلّ المقاصد المتّجهة نحو تقدّمها يوما فيوما أنظار جلالة مولانا السلطان المعظم عبد الحميد خان، أيّد الله سلطنته، بعثت نظارة المعارف العمومية السلطانية مأمورية إلى إسبانيا وباريس ولندرة للإطّلاع على بعض ما بها من الآثار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· نشر الشيخ علي بن سالم الورداني نصّ رحلته في جريدة “الحاضرة” التونسية طيلة ثلاث سنوات (1888م-1890م) ضمن ثمانية وعشرين عددا. وقد تولّى الدّكتور الحبيب العوّادي جمع وتحقيق ودراسة هذه الرّحلة تحت إشراف الدّكتور علي الشّنوفي لنيل شهادة الكفاءة في البحث من الجامعة التونسية سنة 1979 وتمّ نشرها بتونس سنة 2008. وقام الأستاذ عبد الجبّار الشريف جمع هذه الرّحلة وتحقيقها وتقديمها ونشرها أيضا سنة 1984.
وقد سعينا إلى مراجعة هذه الأعمال كاملة من جمع وتحقيق وتعليق مع جمع ما نظمه ابن التلاميد بمناسبة الرّحلة وتحقيق قائمة الكتب. وسنكتفي في هذا المجال بنشر نصّ الرّحلة مجرّدا من الشروح والتعاليق تيسيرا على القارئ في انتظار نشر عملنا كاملا إن شاء الله.
العربية والكتب النّفيسة الإسلامية. وعيّنتني ترجمانا للمأمورية بأمر حضرة الوزير الخطير والفيلسوف الشهير عالم الوزراء ووزير العلماء صاحب الدّولة منيف باشا وزير المعارف العمومية. فأحببت أن أكتب شيئا من رحلتي هاته وما استكشفته من المشاهدات والآثار بتلك الديار قياما بواجب الخدمة وتقديما لفرائض الذّمة والله سبحانه وتعالى المسؤول في جعلها مظهرا للقَبُولِ إنه هو الوَلِيُّ الحَكِيمُ.
مبدأ الرحلة
تلقينا الأوامر العلية اللاّزمة والتعليمات المقتضية من نظارة المعارف الجليلة وأخذنا في التّداركات السّفرية. فلما كان يوم الأربعاء المبارك الموافق تاسع عشر ذي الحجة سنة 1304هـ، بارحنا دار الخلافة العظمى على الصفة الآتية. وهي أننا قد مررنا بباب الكمرك الكائن في الجهة المعروفة (بسركه جي اسكله سي). وبعد أن تحرّى متوظّفوه أمتعتنا حسب القاعدة المعتادة نزلنا في القايق وذهبنا إلى الفابور المُسَمَّى (لموز) وهو اسم لنهر من أنهر فرانسا أحد فابورات شركة (بكيت). وهي شركة فرنساوية مركزها العمومي في مرسيليا.
وهي حديثة عهد التشكّل. وعِدَّةُ بواخرها اثنتا عشرة باخرة وأعمالها منحصرة في ممالك الدولة العَلِيَّةِ وجنوب الروسية وجمهورية أمريكا وحكومة المغرب الأقصى ومرجعها فرانسا.
وكانت أوراق السفـر التي أخذناها من الآستانة العَلِيَّةِ إلى مرسيليا ذهابا وإيابا وقيمتها في ذلك 275 فرنكا ونهاية موعد الورقة أربعة أشهر فإذا مضت المدّة المذكورة احتاج المسافر إلى أخذ ورقة أخرى بأجرة ثانية.
فركبنا الفابور المذكور ورأينا فيه من الانتظام ما وفّر لنا كمال الرّاحة في هذه السفرة وكان الفابور موسوقا بنحو مائتي ألف دجاجة فسألت عن موردها ومصدرها فتبيَّن لي أنها مشتراةٌ من الممالك المحروسة العثمانية بالأثمان الزهيدة التي لا تزيد عن خمسة غروش عن كل دجاجة بحساب المتوسط وتُحمل إلى مرسيليا فتُباع فيها الدجاجة بثلاثة فرنكات على الأقل وهذا النوع تحقق لي بعد أن وصلت إلى مرسيليا أنه أرخص فيها منه في باريز.
وعندما ركبنا الفابور كان الهواء ساكنا لطيفا ومرآة الجو صقيلة جدا ومياه الخليج هادئة الروع والوقت وقت العصر والشمس مائلة إلى حيث الغروب.
فانطلق الفابور في الساعة الحادية عشر فسار بنا شرقا والشمس قد ذَهَّبَتْ بِنَيْرِ أصِيلِهَا قُنَنَ الجبال وعَصْفَرَتْ مناظر المباني الشاهقة.
وما زلنا كذلك بين الشاطئين حتى استترت عنا غُرَّة الشمس وأشرق جبين القمر فانعكست أشّعته على بلور المياه بين الجبلين فشكّلت للعيون أبهى منظر وأبهج مخبر يقيم للقلب أعظم البراهين على تفرّد هذا الموقع في الكرة الأرضية.
ولم نزل حتى أشرقت الشمس ونثرت دنانير أشعتها على البرّ والبحر كما قال الشاعر:
[طويل] كَأنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ في كُلِّ غَدْوَةٍ ***على وَرَقِ الأشْـجَارِ أوَّلَ سَاطِعِ
دَنَانِيـرُ في كَفِّ الأشَـلِِّ يَرُدُّهَا ***لِقَبْضٍ فَتَهْوَى من خِلاَل الأصَابِعِ
وإذا بنا قد وصلنا بُوغاز الدَّرْدَنِيل والقلعة السّلطانية فلمحت ثمّة من الحصون والقلاع الحصينة ما يَسُرُّ الحبيبَ ويَسُوءُ العَدُّوَ ثم رأيت حصنا حصينا وسدّا متينا واستحكامات محكّمة شاهقة وقلاعا عاصمة مانعة ومُلْكًا كبيرا. وقد أخبرني قَبُودَانُ الفابُور أن هذا الموقع مَعْدُودٌ أوَّلَ موقع في الدنيا من جهتي القوّة والتّحصين حيث أن قُوّتيه الوضعية والطبيعية من أعظم القوى. ثم قال وان كان جبل طارق يشاركه بعض مشاركة في ذلك إلا أن الدَّردَنيلَ يزيد عنه بأمور أعظمها أنّه المفتاح الوحيد بين أوروبا وآسيا ومنها أن أي دولة كانت في العالم لا تكاد تعبره إلا بعد خسارة ثلاثين مدرعة حربية حسبما تقتضيه القواعد البحرية، وذلك لما يشتمل عليه من القوّة الوضعية من المدافع العظيمة والتوربيد والقوّة الطبيعية وهي موقع البوغاز بين الجبلين العظيمين.
ومتى تأمّل الإنسان يحكم بالبداهة على أن قوّة واحدة لا تعارض أربع قوّات منها ثلاث وضعية صناعية والرابعة القوى الطبيعية وهي شكله الموقعي.
ثم رسا الفابور في السّاعة الرّابعة من يوم الخميس 20 ذي الحجة.
والقلعة السلطانية تشتمل على مراكز حصينة. وهي مدينة لطيفة ذات مبان وآثار نافعة ومآثر جليلة منها القشلاق الموسوم بالحميديّة فانّه قشلاق هائل متين مشرف على البحر وفيه كثير من الجند العثماني وفيه يكون التّعليم العسكري.
ومن أعمال هذه المدينة الأواني الفخارية الناضرة التي تضارع الصيني في جودتها ورونقها. ولم أتمكّن من التجوّل فيها لعدم معرفة وقت السّفر. ثم إنّ الفابور ألقى ما حمله إليها واحتمل ما احتمل عنها من الرُّكَّابِ والبضائع وأخذ الرّخصة من الحكومة السَّنِيَّةِ كما هي العهود المقرّرة بين الدولة العليا والدول المتوادّة. وسافر منها في السّاعة العاشرة من ذلك اليوم وفي السّاعة الرّابعة من يوم الجمعة 21 ذي الحجة وصلنا إلى إزمير.
إزمير
عندما أقبلنا على مدينة إزمير استقبلنا مرساها البهيج بين جبلين عظيمين قد أحدقا بالبحر وهي كائنة على شرقي البحر ومرساها منتظمة جدّا بحيث ترسو الفابورات على ذات الرصيف أو قريب منه. وإذا نظرت إلى المرسى وجدتها مشحونة بالفابورات المختلفة الرايات مزدحمة بين راحل وحال وناقلة إليها وعنها، رُكَّابًا وبضائع بحيث يدل ذلك التزاحم على كثرة علائقها التجارية وكثرة تَرَدُّدِ التّجار والمسافرين.
فإذا نزلت إلى الاسكلة رأيت شاطئا ممتّدا من الشّمال إلى الجنوب مشرفا على البحر من جهة، محدودا بالمباني الفائقة والدكاكين والقهاوي والأوتيلات العامرة من جهة أخرى، وبينهما أي بين المباني والبحر تجري عربات السّكة الحديدية والترامواي والزّحام مُحْتَبِكٌ دائما وهذه المرسى من آثار حضرة السلطان المعظم عبد الحميد أيّده الله تعالى، فإنها من مآثر حضرته الحميدة.
والمدينة كلها عامرة ناضرة وأهلها أهل تجارة وزراعة وفيها معامل أشهرها معامل التّين والزّبيب، ومنها يحمل إلى أوروبا. وفيها من الفاكهة خيرات كثيرة وفيها جريدتان تركيّتان إحداهما رسمية وهي جريدة (ايدين) وأخرى واسمها (خدمت) وفيها جرائد رومية وإفرنجية لم يمكني الإطّلاع عليها، وفيها مكاتب تركية ورومية وإفرنجية، وفيها ترقٍّ عظيمٌ في العلوم والمعارف وهي مركز ولاية (ايدين) وأكبر مدن الأناضول وأشهرها تجارة وثروة.
وأقمنا فيها إلى السّاعة الحادية عشرة من يوم السّبت 22 ذي الحجة، وسافرنا منها يومئذ والبحر شديدُ الاضطراب هائجُ الرّياح، فجرى بنا الفابور بين تلك الاضطرابات المتوالية، والأمواج الهائلة مدّة يومين تقريبا حتى أن حال البحر منعنا الرّاحة والطّعام في أغلب الأوقات.
[ الوصول إلى مضيق مِسِّينا]
ومازلنا كذلك حتى وصلنا إلى بوغاز (مسينا) وهو من ممالك إيطاليا فوصلنا إليه في الساعة الحادية عشرة يوم 25 ذي الحجة وهو بوغاز لطيف كائن بين جبلين خصبين متوسطين في الارتفاع والمجرى يأخذ من الجنوب إلى الشّمال مقدار ساعتين بسير الفابور.
وكان مسير فابورنا في السّاعة الوّاحدة عشرة أميال. وأكثر الأشجار النّابتة في الجبلين أشجار ظِلِّيَةٌ غير مثمرة وليس في هذا البوغاز شيء من القلاع والحصون لعدم تعلّقه بحماية شيء من الأراضي. وهذا البوغاز يفصل بين إيطاليا وبين جزيرة (سيسيليا).
وتوجد شركة فابورات صغيرة تشتغل بحمل الرّكاب والبضائع بين إيطاليا وبين الجزيرة مثل: الشّركة الخيرية المعلومة في دار السّعادة العلية.
وهواء ذلك البوغاز جيّد نقي جدّا. ومدينة (مسينا) هذه هي مقرّ حكومة إحدى ولايات سيسيليا الخمسة ومقدار نفوسها مائتي ألف نسمة وهي من جملة مصايف إيطاليا وأوروبا عموما.
ثم تجاوزنا البوغاز المذكور وسرنا قاصدين مرسيليا فاستمر سيرنا مدّة ثلاثة أيّام تقريبا لا ترى سوى سطح البحر وفيه فيروز السّماء إلا أنّ لطف الهواء وركود الماء لم يسلب لنا راحة فلّما كانت ليلة الخميس 28 ذي الحجّة وحلّت الساعة الثّامنة تقريبا دخلنا الخليج المسمّى (كولف دوليون) بمعنى خليج الأسد وهو خليج مرسى مرسيليا مجراه من الجنوب إلى الشّمال، وهو خليج شديد الوعرة مضطرب الأمواج في كلّ وقت ولهذا سمّي خليج الأسد.
وما زلنا نسير أكثر من ثلاث ساعات. وفي شروق يوم الخميس المذكور وصلنا إلى المرسى.
مرسيليا
هي في جنوب فرانسا على البحر المتوسّط ومرساها منتظم جدّا. وهي أوّل مدينة تجارية بفرانسا بعد باريس لأنها ممّر جميع البضائع التي تخرج من فرانسا إلى إيطاليا واليونان والممالك المحروسة، ودولة الروسيا وإسبانيا والمغرب الأقصى وسنقاليه والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والهند. وكمركها غنيّ جدّا. وقد وجدنا في ساحة الميناء يوم دخولنا نحو أكثر من ثلاثين فابورا تجاريا. ومراسي الفابورات فيها كمرساها في مدينة إزمير. والمدينة مربّعة الشّكل وعدّة نفوسها 000 350 تقريبا. ومبانيها شاهقة إلى خمس طبقات والأزقّة متسعة مرصوفة بالأحجار الصّلدة. وسعة الشوارع تختلف من خمسة أمتار إلى اثني عشر تقريبا وجميعها مستنير بالغاز سواء شوارعها وأزقتها فاللّيل فيها كالنّهار. وأحسن ما شاهدت فيها من المنازه العمومية المحلّ المسمى (كانبير) وهو مجمع عظيم يشتمل على قهاوي وأوتيلات ومباني ودور عديدة وبستان صغير وهو منتزه القوم.
ومن معاملهم المشهورة: معمل الشمع، ومعمل الصابون، ومعمل آخر لاستخراج الزيت وهو قريب من المكان المسمّى (كورس بونابارت) وهو منتزه آخر من منتزهاتهم. وعلى مقربة من ذلك المكان ربوة عالية تسمّى (كولين بونابارت) بها أشجار ظِلّيّة عظيمة ومياه جارية تنبع من منابع عديدة فتجول في خلال هذا المنتزه. وهي مشرفة على المدينة وعلى البحر، ومنظرها بهيج لكن ليس بها مَبَانٍ الآن. والطّرق الموصلة إلى الرّبوة سهلة منتظمة بحيث لا تجهد الصّاعد ولا يصعد إليها إلا المشاة لتعذّر مرور العربات والخيول لوجود بعض درجات وانحناءات أثناء الارتقاء. والمنتزه في قُنَّةِ الرّبوة يُسمَعُ منه خريرُ المياه المنحدرة كالآلات المطربة ذات النّغمات المختلفة، وفيها عدّة مكاتب مهمّة عظيمة الفائدة منها: المكتب التجاري، وفيه تُدرس علوم التّجارة. وفيه يُدَرَّسُ اللّسان العربي، وله مُعَلِّمُونَ من نصارى الشام يهاجرون إليها رغبة في كثرة المرتّبات، وهذا يدلّ على أن فرانسا تهتم كل الاهتمام برواج تجارتها في البلاد العربية ورعاية منافعها بهذا اللّسان.
وأهم الملاهي التي عندهم: الملهى الذي يسمّونه (شيرك) وهو محلّ تلعب فيه الخيل. وقد رأيت من التّنظيم وحسن تعليم الخيل ما يذهل النّاظر حتى إنّ الفرس يُحسن الرقص جدّا ويُخَيَّل للمتأمّل أن ذوقه للموسيقى لا يخالف ذوق الإنسان إلا بكون هذا ذوقه طبيعيّ في غالب الأشخاص والآخر ذوقه كسبيّ. وهنالك تظهر آثار التطبّع وإنّها لتضمحل بسهولة. وهي أن الحركات المعتدلة المشاهدة من الفرس في مثل هذا المقام ليست صادرة من تلقاء نفس الفرس وحده بل لا بدّ له من محرّك يوقظه لما يلزم من الحركات بضربات مخصوصة وهو الرّاكب أو المعلّم إذا كان الفرس غير مركوب، فلو فرضنا أن جاهلا بتلك الحركات والتعليمات ركب الفرس ما أتى بتلك الألعاب.
وقد ترتفع أثمان هذا الخيل بحسب النّسل كعادة العرب بالمشرق المحفوظة بينهم إلى هذا الوقت. ويجعلون لكل فرس مشهور عقدا يذكرون فيه الأصل الذي ينتهي إليه. وقيمة الدخول إلى السّيرك من فرنك إلى خمسة فرنكات. والعادة عندهم تعطيل تلك الألعاب في أيّام الشّتاء وحينئذ يتبدّل السّيرك بالتياترو .
وسكّان هذا البلد لهم اختلاط عظيم بالطّليانيين، ويُفْهَم من تزاحم الطّليانيين إلى هذا البلد أن أعظم تجارتهم هي الخدمة البدنية بأن ترسل من جزرها كجزيرة سيسيليا ومن جنوب إيطاليا وغيرهما أولئك العاجزين عن التكسّب في أوطانهم لكثرتهم فيها إلى أقطار أوروبا. وقد بلغ ذلك في هذا البلد إلى أن أقلق عدد المتزاحمين أفكار الوطنيين فإن عِدَّتَهُم تبلغ إلى أربعين ألفا، وإنهم ليزاحمون الوطنيين على الخدمات البدنية حتى إنّ الأمر قد يفضي إلى جدال وتناوش بين الجنسـين<spa