أنهيت إجراءات سفري واستلمت من الشرطي جواز سفري بعد أن وضع عليه تأشيرة خروج، تجاهلت الرجل الذي حشر نفسه في شأني التماسا لمنفعة أو حبا بالمساعدة. ولبيت نداء المراكبي الذي وقف على الضفة يؤكد لي أنه سينطلق بمجرد أن أعتلي زورقه.. نس التأكيد نفسه تلقاه بعدي مسافرون كثر، وربما كان من تلقوه قبلنا أكثر.
واصل الرجل تأكيداته حتى امتلأ الزورق بالركاب والأمتعة، وانطلقنا نحو الضفة الأخرى للنهر.
كان الركاب أنماطا مختلفة من البشر، متباينين في كل شيء..”خليط كسويقاء المرق” على حد تعبير المسعدي.
وانساب بنا الزورق بهدوء لا يقطعه إلا هدير المحرك خلفنا، وحمل إلينا هواء النهر نسمة منعشة في هذا الصباح الذي ينذر بيوم حار من أيام مايو.
على الضفة الأخرى بدت العبّارة راسية كأنها لا تنوي العودة. قال بعضهم إنها تعطلت وهي بانتظار إصلاحها. وفي غمرة الحديث عن العبّارة التي اقتربنا منها أكثر فأكثر، أطفأ الرجل محرك الزورق وتركه ينساب مع التيار يسارا، فهو لا يريد أن يبلغ الضفة قبل أن يجمع الأجرة من الركاب. وأصحابنا فيما يبدو لم يكونوا مستعدين للأمر، لأن إخراج المبالغ القليلة تطلب وقتا أكثر من المعتاد.
وفيما كان الزورق يقترب ببطء من الضفة إذا به يعترض طريق زورق آخر انطلق لتوه بسرعة،أوشك الزورق المحمل بأكياس المانغو أن يصدمنا ويلقي بنا في الماء، لولا لطف الله بنا. صاح راكب كان في مقدمة الزورق على زميله في الخلف، فأطفأ المحرك في آخر لحظة، بعد أن بلغت القلوب الحناجر.
***
وأنا عائد بعد ذلك بشهر.. سمحت للرجل الذي استقبلني، وكأني عزيز طال به العهد، أن يقوم بدلا مني، بإجراءات المغادرة. كنت مرهقا بعد رحلة بالسيارة استمرت طول الليل، كنتُ خلالها محشورا بين راكبين، في المقعد الخلفي لسيارة “بيجو” عتيقة.
أنهى الرجل إجراءاتي، وبدا ممتنا للمبلغ الزهيد الذي منحته، وعلى الضفة وجدت حشدا من الموريتانيين في حالة انتظار، ظننت في البداية أنهم ينتظرون العبارة، لكن أحدهم أخبرني في سخرية أن الوطن لا يستقبل أبناءه إلا مع بدء الدوام.
كان بعضهم يحاول مع أصحاب المراكب، لكن هؤلاء قالوا إن الشرطة سوف تفرض عليهم غرامة لو عبروا قبل السابعة والنصف. وكان الوقت بعد السادسة بقليل.
كان علينا الانتظار دهرا، ولم أكن أستطيع التحمل أكثر. لذلك لبيت عرض الرجل الذي اقترح علي شايا في مطعمه القريب، ريثما أتمكن من العبور.
ومع انتهاء الشاي كانت العبارة قد رست تحمل السيارات والركاب. وتدافع الناس في الاتجاه المعاكس يستبقون، بعد أن أحذت السيارات المتجهة يمينا مكانها على ظهر العبارة.
وعلا هدير المحرك الضخم يشق سكون الصباح، وهواء النهر يحمل رائحة عبقة كذكرى قديمة.
واندفعت مع الركاب إلى الضفة.. استقبلني شاب لا أدري لماذا اختارني من بين الجمع، حمل
حقيبتي، وأخبرني أن لديه سيارة نقل جاهزة للانطلاق إلى نواكشوط.
ــ أنت فقط من ينقصنا. قال مؤكدا.
رجوته أن ينتظرني حتى أنهي إجراءات الوصول، لكنه رد ساخرا: لا ضرورة لذلك، هناك فتحة في هذا الجدار إلى اليمين، وسيارتي متوقفة في الشارع قبالتها.
وعند الفتحة قابلنا بعض الداخلين والخارجين. كان هناك شرطي قد أقعى للتبول..! وتبين أن الأمر طبيعي بنظره، أو أنه مثلنا جميعا، غير معني بمن يدخل إلى الوطن أو من يخرج منه.
وتذكرت وأنا أقطع خطواتي الأولى على أرض الوطن، مقولة “إننا أحسن حالا من البلدان المجاورة”.
العنوان الأصلي للمقال : (العبور إلى الوطن).
واصل الرجل تأكيداته حتى امتلأ الزورق بالركاب والأمتعة، وانطلقنا نحو الضفة الأخرى للنهر.
كان الركاب أنماطا مختلفة من البشر، متباينين في كل شيء..”خليط كسويقاء المرق” على حد تعبير المسعدي.
وانساب بنا الزورق بهدوء لا يقطعه إلا هدير المحرك خلفنا، وحمل إلينا هواء النهر نسمة منعشة في هذا الصباح الذي ينذر بيوم حار من أيام مايو.
على الضفة الأخرى بدت العبّارة راسية كأنها لا تنوي العودة. قال بعضهم إنها تعطلت وهي بانتظار إصلاحها. وفي غمرة الحديث عن العبّارة التي اقتربنا منها أكثر فأكثر، أطفأ الرجل محرك الزورق وتركه ينساب مع التيار يسارا، فهو لا يريد أن يبلغ الضفة قبل أن يجمع الأجرة من الركاب. وأصحابنا فيما يبدو لم يكونوا مستعدين للأمر، لأن إخراج المبالغ القليلة تطلب وقتا أكثر من المعتاد.
وفيما كان الزورق يقترب ببطء من الضفة إذا به يعترض طريق زورق آخر انطلق لتوه بسرعة،أوشك الزورق المحمل بأكياس المانغو أن يصدمنا ويلقي بنا في الماء، لولا لطف الله بنا. صاح راكب كان في مقدمة الزورق على زميله في الخلف، فأطفأ المحرك في آخر لحظة، بعد أن بلغت القلوب الحناجر.
***
وأنا عائد بعد ذلك بشهر.. سمحت للرجل الذي استقبلني، وكأني عزيز طال به العهد، أن يقوم بدلا مني، بإجراءات المغادرة. كنت مرهقا بعد رحلة بالسيارة استمرت طول الليل، كنتُ خلالها محشورا بين راكبين، في المقعد الخلفي لسيارة “بيجو” عتيقة.
أنهى الرجل إجراءاتي، وبدا ممتنا للمبلغ الزهيد الذي منحته، وعلى الضفة وجدت حشدا من الموريتانيين في حالة انتظار، ظننت في البداية أنهم ينتظرون العبارة، لكن أحدهم أخبرني في سخرية أن الوطن لا يستقبل أبناءه إلا مع بدء الدوام.
كان بعضهم يحاول مع أصحاب المراكب، لكن هؤلاء قالوا إن الشرطة سوف تفرض عليهم غرامة لو عبروا قبل السابعة والنصف. وكان الوقت بعد السادسة بقليل.
كان علينا الانتظار دهرا، ولم أكن أستطيع التحمل أكثر. لذلك لبيت عرض الرجل الذي اقترح علي شايا في مطعمه القريب، ريثما أتمكن من العبور.
ومع انتهاء الشاي كانت العبارة قد رست تحمل السيارات والركاب. وتدافع الناس في الاتجاه المعاكس يستبقون، بعد أن أحذت السيارات المتجهة يمينا مكانها على ظهر العبارة.
وعلا هدير المحرك الضخم يشق سكون الصباح، وهواء النهر يحمل رائحة عبقة كذكرى قديمة.
واندفعت مع الركاب إلى الضفة.. استقبلني شاب لا أدري لماذا اختارني من بين الجمع، حمل
حقيبتي، وأخبرني أن لديه سيارة نقل جاهزة للانطلاق إلى نواكشوط.
ــ أنت فقط من ينقصنا. قال مؤكدا.
رجوته أن ينتظرني حتى أنهي إجراءات الوصول، لكنه رد ساخرا: لا ضرورة لذلك، هناك فتحة في هذا الجدار إلى اليمين، وسيارتي متوقفة في الشارع قبالتها.
وعند الفتحة قابلنا بعض الداخلين والخارجين. كان هناك شرطي قد أقعى للتبول..! وتبين أن الأمر طبيعي بنظره، أو أنه مثلنا جميعا، غير معني بمن يدخل إلى الوطن أو من يخرج منه.
وتذكرت وأنا أقطع خطواتي الأولى على أرض الوطن، مقولة “إننا أحسن حالا من البلدان المجاورة”.
العنوان الأصلي للمقال : (العبور إلى الوطن).